لا يحتاج المُفكِّر وإن كان عاميّْاً أو مُتَوَسِّط الثقافة إلى فلسفة في معرفة الحقائق التي يُذْعِن لها عقله؛ ومِن ثَمَّ يجب أن يَنقادَ لها سلوكُه.. وإنما العامي قد لا يستطيع التعبيرَ عن مُكَوِّناتِ يقينه إلا بلغة قاصرة لا تُحسن تحديد الاصطلاح، وبناء تسلسل المعارف (البديهيات) بنظامٍ رياضي،
وبهذا يكون دورُ المفكِّر ذي العلم القيامَ بهذه المُهِمَّةِ اللغوية التنظيمية؛ لتكون حاجزاً منيعاً يَرُدُّ عواديَ التضليل المنظَّم الذي يريد تغييبَ الحقائق التي جبل الله قُوى العقل على إدراكها، ولتكون إضاءاتٍ لِمَن خالجه شكٌ أو لَبْس مع سلامة النية وحُسْنِ القصد.. وأريد بالإدراك الفطري للعامي وغيره الذي لا يحتاج إلى معاياة فلسفية: أن كل فرد يعي ويعايش مراحِل عمره منذ نموِّ تمييزه في إدراك المحسوسات الظاهرة والباطنة، وفي نموِّ قوى عقله التي تُميِّز بين المُدْركات، وفي نموِّ لسانه بالنطق (بتدريب البيت والشارع، وتربية المعلِّم، أو الاندماج في المجتمع الذي اجتمع له النطق دِربةٍ وتلقيناً)؛ فَيُمِدُّه نموُّ لسانه بمفردات وجمل لغوية ترمز لكل واحد من الأشياء التي أدركها بدلالةٍ تميِّزه عن الأشياء الأخرى.. وذو العلم والفكر الذي يُقيِّد نظام المعارف بلغةٍ واضحة لا يَبْتدِعُ غير موجود، بل يعود إلى مراحل تسلسل المعارف التي يشارِك في الإحساس بها كلَّ بني جنسه من عامي وغيره؛ فيجد أن المواليد منذ صَرْخَةِ الميلاد وقطع السِّر -وحالتهم هي حالُهُ تماماً عند ولادته-: لا يعلمون بالعقل شيئاً، ولا ترسو حواسُّهم على تمييز محسوس من محسوس إلا بعد وقت وحضانة؛ وإنما عنده غريزة فطرية لم يُحَصِّلها بعلمه، فيميِّز الثدي ويلتقمه، ويبكي ويتألَّم مما يُؤلم؛ فإن ضاق مكان نومه عما يَسَعُ امتداد رجليه وتقلُّبِه بكى، ويتألم من البرد والحر، وإذا حصلت له الراحة بعد غذاء وسعَة وجدته يضحك ويناغي ما حوله من أجسام أو أنوار على مدى بداية نموِّ إحساسه.. ويتميَّز المفكر المسلم بأنه يجد من كلام ربه الخبر عن هاتين الحقيقتين؛ فعن عدم العلم يجد قوله تعالى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} (78) سورة النحل، ثم ذكر الله سبحانه وتعالى ما خلقه في الإنسان لتربية سلوكه قبل العلم وبعده؛ فقال تعالى عن الخلْق الذي يُرَبِّي السلوكين: {وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (78) سورة النحل، وهذا خبر مباشر بعد الخبر بأن الله أخرجهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً.. والله سبحانه وتعالى يُحيل إلى أحكام العقل كثيراً، ويُحيل إلى القلب ويجعله عارفاً مدركاً كما في قوله تعالى ههنا: {وَالأَفْئِدَةَ}؛ لأن اليقين العقلي إذا لم يتحول إلى عقيدةٍ في قلب الإسان تصدر عنها نياته وعزائمه فلا قيمة ليقينه العقلي؛ فيعي المسلم بذلك سعةَ حلم الله وشمولَ عدله في تأجيل العقوبة أو تأجيلها للمعاند ذي السلوك الغاشم الجاحد المكابر يقين عقله.. ويعي المسلم معنى الآيات التي وصفت الجاحد المعاند بأنه لا يعقل ولا يسمع ولا يبصر؛ لأنه لما تخلَّى عن شواهد سمعه وبصره، وجحد يقين عقله فلم يتحوَّل إلى إيمانٍ في قلبه: فالمعنى أنه تخلَّى أوَّلاً عن الانتفاع بعقله وحسه بعد توالي المواعِظ والبراهين، ثم عاقبه الله بسلب ذلك مستقبلاً؛ إذْ مضى علمه جل جلاله بسوء خاتمته؛ فحُكْمُه حينئذ أنه لا يعقل ولا يسمع ولا يبصر وإن كان ذا كيدٍ ومهارة وقوى نادرة في العقل والسمع والبصر لخدمة أغراضه من الشهوات والظلم والعدوان وتنمية المال وادِّخاره، وصنع الأدوات التي يُحارب بها، أو يحرث بها الأرض... إلخ؛ وإنما جعل الله مواهب الإنسان عقلاً وحساً من أجل وجودٍ مُعْتَدٍّ به يسعد به، وتسعدُ به البشرية، ويستفيد من الطبيعة بلا حيف، ويقوى على الاستعداد للحياة الأبدية بعد الموت.. ولا يمكن النعيم بهذا الاستعداد مع تغييب اليقين بالعناد، ولا يمكن تحقيق معنى (يعقل، ويسمع، ويبصر) إلا بالقيم والمعايير التي تحقِّق له ولأبناء جنسه السعادة، والتعاملَ مع الطبيعة بشرط الله في استعمارِه إياناً الأرضَ؛ فلا يعتدي سلوكنا بما يرتدُّ على صحتنا، ولا يجور سلوكنا بما يحرمنا من الانتفاع بالطبيعة وهي مصدر غذائنا وراحتنا وتَنَفُّسنا.. ومن سعة حلم الله تصرُّفه في خلقه إذا سيطر على أهل الأرض مُغَيِّبو اليقين غير المنتفعين به؛ فإن سلوكهم يكون فساداً فيما حولهم يفدحهم في أنفسهم؛ فيذكِّرهم الله بذلك لعلهم يعودون إلى يقينهم كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (41) سورة الروم.. ومع هذه التَّرْجِية والإمهال نجد التحذير من بأس الله في الدنيا الذي لا يشك فيه العلم المادي بكل وسائله الجبَّارة - فما بالك بذوي الفطرة السليمة بلا معاياة -؛ فقال تعالى عَقِبَ تلك التَّرجِية مباشرة: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ} (42) سورة الروم.
قال أبو عبدالرحمن: لا يُعْهد في تاريخ البشر فسادٌ في البر والبحر مثل ما نعيشه اليوم، وكله من الظلم العالمي بإكراه الأطماع والشهوات، فتلوُّثُ البيئة براً وبحراً وهواء شرٌّ طوَّق المعمورة كلَّها، وظهرت أمراض فتَّاكة لا عهد للبشر بها أيضاً كالتلوث بالإشعاع الذري، وكتلوُّث المياه بما يُدفن في أراضي المستضعفين، وكالتلوث بعدوى الإباحية من دنس الديوثة والشذوذ، ومن نتن القَتْلى؛ فالذي مرَّ على البشرية مما هو من أكبر المعارك يكون في بقعة واحدة، ويُعَدُّ القتلى بالآلاف، ويتمُّ إحكام دفنهم.. واليوم القتل بالملايين في كل البقاع، والجثث تُرمي في البحار وفي العراء، وهذا هو الهرج الذي أخبر مَن لا ينطق عن الهوى (عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم) عن وقوعه آخر الزمان.. والفقيه المُتَبصِّر يعلم علم اليقين من شواهد شرعية أن الحياة الفطرية الطبيعية عائدة، وأن العُقْبى للإسلام وأهله، وأن عودة الحياة الفطرية سيسبقه تطهيرٌ بعقوبةِ من الله تُبيد أهل الظلم.. والمسلمون وأهل الكتاب باقون إلى يوم القيامة؛ لأن تدبير الله الكوني لم يَقضِ باستئصالهم كعاد وثمود؛ ولكنَّ هذا لا يعني عدمَ استئصال طوائفَ منهم على مدى الأزمان، وهكذا الوثنيون ومَن لا دين له هم أحرى بالاستئصالِ.. والذين أُهلكوا من الأمم السابقة هلاكهم يقينٌ علميٌّ هو على وجه الأرض الآن كالصيهد وديار ثمود وأرض شعيب عليه السلام، وكل ذلك في جزيرة العرب، وكبحيرة قوم لوط عليه السلام في جزء من بلاد الشام على معناها العام، وكبحيرة قارون وآثار الفراعنة في مصر.. وكلها شواهد حسية منظورة بسبيل مقيم، وتلك معرفة انتقلت إلى العلم بما أنتجته وسائل الحفريات واكتشاف هُوِيات الآثار، وهي علم بمقتضى التواتر التاريخي، وهي علم بمأثور أهل الأديان الذين قال الله عنهم: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (91) سورة الأنعام.. إذن المسلم المفكر شريك العقل الإنساني المشترك في الإدراك وطبيعة المعرفة والعلم، وما لم يعلمه من أمور الدنيا صنعاً ومهارةً فلأنه لم يتعلَّمْه، أو حُجِرَ عليه ذلك، وليس معنى ذلك خُمولَ عقلِه؛ وإنما يعني اختلاف المادة التي وظَّف فيها فكره وعبقريته؛ فالخليل بن أحمد رحمه الله تعالى عبقري باعتراف مفكري العلم، ولكنه وظَّف عقله في نظريات لا تنتج مهارَة العلم الحديث المادي الذي حصلتْ به القوة والكماليات، وهكذا المسلمون اليوم الذين لم يتفرَّغوا للفقه في دين ربهم صرفوا عقولهم الجبَّارة وعلومهم الثريَّة في النظريات من الآداب والألسنيات وميتافيزيقا التاريخ... إلخ، وأنا واحد منهم في ذلك، ولكنني جعلت أكثره للفقه في دين ربي لمَّا فاتني العلم بما يُنتج مهارات الحرف.. والعلم الماديُّ المنتجُ قوةً ووكمليات يُصبح بعد ذلك حرفةً ومهارة يمارسها مُتَوَسِّط الموهبة في الفكر؛ وإنما يتميز المسلم في مشاركته العقلَ الإنساني المشترك بالذِّكرى المُرَبِّية السلوك، المزكِّية النفس؛ فتصبح سعيدة آمنة، ويحدوها الإيمانُ الصَّلْبُ بالواقع المغيَّب الذي غيَّبَ براهينَه الألمعِيُّون في علوم الدنيا اتِّباعاً لنوازع شهوات اللذة، وشهوات العدوان، والحمية للمأثور الذي غَمَرَتْه تلك النوازع بالتحريف والافتراء بالتبديل والإضافة.. وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.
- عفا الله عنه -