ارتبط التطوع في ثقافتنا المعاصرة في المزايدة في كيفية التسلط الديني، فقد كان للمتطوعين في حياتنا المعاصرة صولات وجولات، وقد وصل بهم الحال في يوم من الأيام إلى أن يعتقدوا أن لهم الأمر والنهي في الحياة العامة، لكن ذلك السلوك السلطوي واجهه في المقابل مقاومة من الناس، فقد اشتدت المواجهات بينهم وبين المجتمع، وكادت أن تصل في بعض الأحيان إلى العنف والتشابك بالأيدي، والتطوع في مفهومه المعاصر ليس له علاقة بالتدين، لأن الشخص المتدين يسمو بتصرفاته عن إيذاء الناس مرضاة لله عز وجل، بينما يتلذذ المتطوع أو المطوع بكشف عورات الناس، ومطاردتهم فيما استتروا عليه، ولا يصح أن أعمم، لكن ذلك كان سلوكاً سائداً عند بعضهم في أوقات مضت، كما يجب الإقرار أن ثمة تطوراً في طريقة التعامل مع المجتمع حدثت، فقد تحسنت العلاقات نوعاً ما، لكنها لا زالت تفتقر إلى أن تصل إلى مستوى القناعة في عدم التدخل في حياة الناس الفردية.
التساؤل الذي لا زال يبحث عن إجابة شافية، لماذا وصل حال التطوع أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياة المسلمين إلى هذه الدرجة من التسلط، وهل يعتبر ذلك أمراً مقبولاً أم أنه ناتج عن تشويه في عملية التطور السياسي والاجتماعي والتشريعي في حياة المسلمين، ولو تأملنا ما يحدث في حياتنا المعاصرة لوجدناها لا تختلف كثيراً من الناحية التشريعية عن القرون الأولى، بل إن نفس العقل الفقهي لا زال يحكم حياتنا العامة، ولم يحدث في هذا الشأن نقلات تشريعية تنظيمية من أجل مواكبة العصر الحديث ومتطلباته، فقد تجمدنا على نفس الخطاب القديم الذي يرى في الناس دهماء ورعاع لا تستحق أكثر من هذه المعاملة.
لا يمكن القبول بأن الشريعة كائن جامد، لا يقبل التطور، لأن ذلك مجاف للحقيقة، فشرع الله عز وجل نزل ليكون صالحاً لكل مكان وزمان، والدليل أن فقه المسلمين في أوروبا يختلف عنه في الجزيرة العربية، كما أن فهم الإنسان المسلم في ماليزيا يختلف عن مفهوم مسلم يعيش في قبيلة صحراوية، لكن المفارقة أن ذلك المسلم القروي المنغلق قد تغير، ولم يعد كما كان في السابق مجرد فرد من قبيلة تعيش في الصحاري والبوادي، فقد تحولت الحياة الاجتماعية في قلب الجزيرة العربية من حالة الانعزال والتقوقع إلى الانفتاح على ثقافات العالم بفضل التعليم والانفتاح الإعلامي، ومع ذلك لا زال ذلك المتطوع يطرد وراءه في الأسواق والشوارع يأمره وينهره بما يعتقد أنه الصحيح.
قرأت مؤخراً استفتاءً على صفحة الجزيرة على الانترنت، عن الرأي العام في إرسال أفراد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخارج لدراسة اللغة الإنجليزية، وقد شاركت بنعم في الاستفتاء، لأني أعتقد أن تلك الرؤية الضيقة جداً لها علاقة بالانغلاق في المجتمع، فقد استفاد من الابتعاث نسبة غير قليلة من المجتمع، بينما لم تُتح تلك الفرصة لأفراد الهيئة، لذلك أطالب بشدة أن يُرسلوا لمختلف أرجاء العالم من أن يدركوا أن العالم قد تغير بالفعل، وأن الأخلاق والقانون والحرية كائنات تتطور وتتغير باختلاف الأزمنة والأمكنة، فالإنسان في مختلف العالم أصبح يرفض التسلط، ويدين العنف، ولا يقبل بالتعذيب في السجون، فما بالكم أن يُطارد في الشوارع والأسواق، وأن يُساء به الظن كلما خرج مع زوجته في نزهة عائلية.
أدرك أن الشق أكبر من الرقعة، فالتخلف في تقنين العلاقة بين أفراد المجتمع واضح، إذ لا يوجد نصوص قانونية تحدد تلك العلاقة، ولا يوجد مسارات قانونية بينة لا لبس فيها لرد اعتبار المرء ضد من ينتهك حقوقه الإنسانية في المجتمع، ولكن مع ذلك أتمنى أن نبدأ برامج ابتعاث طويلة الأجل لأفراد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخارج من أجل تعلم اللغة الإنجليزية وغيرها، وذلك من أجل أن نخفف قليلاً من ذلك التوتر التي يكاد يتطاير شرراً من نظراتهم أثناء جولاتهم المكوكية في الأسواق والمهرجانات.