لم تأتِ إشكالية البطالة والتسيب الاجتماعي الحالية من فراغ، فقد كان خلفها تركيبة اجتماعية تقدم الوعظ على الاقتصاد، وتحصر العلوم في أصول الدين والشريعة، كان من أهم نتائجها نشوء ظاهرة الإرهاب عندما تم استثمار تلك التركيبة الاجتماعية في نشاط الجهاد السياسي قبل عقدين من الزمان، بدلاً من استغلال طاقات ذلك الجيل في إحداث ثورة اقتصادية مثلما فعلت كوريا الجنوبية، كانت النتيجة كارثة بكل ما تعنيها الكلمة، جيل لا يحترم قيم العمل ومؤدلج بأفكار قطعية، وطبقة من رجال أعمال غير حقيقيين، استغلوا الطفرة الأولى لتكوين الثروات بسبب المتاجرة بالعمالة المستوردة، كانت لهم بمثابة المؤهل ليكونوا قادة في المجتمع، لذلك أجد من العسير أن ينجح هؤلاء في الوقت الحاضر في إحداث التغيير في المجتمع: أولا - لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وثانياً - لغياب قيم العمل في سيرهم الذاتية.
وقبل البحث عن الحلول، علينا أن نتوقف قليلاً، وأن نعيد حسابات كثيرة من الأشياء في تاريخنا الحديث، ومنها أن ما يحدث كان نتيجة طبيعية للتاريخ الاجتماعي للوطن، والذي تم تأسيسه وتوحيده على ثوابت دينية جهادية، فقد كان الأجداد محاربين من أجل نشر الدين في أصقاع الأرض، كذلك كانت ولا زالت الوجاهة في المجتمع لرجل الدين، وقد كانت لوقت قريب للمقاتل المجاهد، ولم يكن للاقتصاد والعمل أي جذور في حياة الناس، وأعتقد أن من أهم أسباب عدم تقدمنا في القطاع الاقتصادي عدم معالجة هذه الإشكالية الاجتماعية، ويفسر ذلك سهولة استدراج المواطنين في قتال في بلاد ما وراء البحار تحت غطاء الجهاد الديني، بينما لم يحصل أن تم طلبهم للعمل في المصانع والشركات العالمية الكبرى.!
لكن مع ذلك، أستطيع أن أقول إن هناك مساعي رسمية حقيقية في اتجاه تحويل المجتمع من بيئة تحكمها قيم القرن التاسع والثامن عشر ميلادي إلى مجتمع يحترم قيم العمل، ويسعى لتحقيق الإنجاز، كان ذلك ظاهراً في انتشار الكليات العلمية والتقنية، وتحجيم الكليات النظرية التي تخرّج كوادر غير مفيدة في هذا العصر، لكن المعضلة الأخرى التي يواجهها الوطن أن الحلول لا زالت تقوم على القطاع الخاص، وأن لديه الحلول النموذجية لاستغلال طاقات الجيل الجديد، لذلك كانت الصدمة قوية بعد سنوات من الفشل منذ تطبيق نظام نطاقات، فالغالبية من أصحاب القطاع الخاص استغلوا ألوان نطاقات من أجل استقدام عمالة أكثر من السابق، وكان الثمن توظيف مواطنين على وظائف أشبه بنظام حافز وبرواتب متدنية من أجل اجتياز امتحان نطاقات.
مشكلة القطاع الخاص أنه في غالبه قطاع خاسر، لأنه ببساطة ريعي، و لا يشكل من الدخل العام شيئاً يُذكر، ويعتمد على مناصفة الأرباح مع العمالة الأجنبية، وتتشكل بعض قطاعاته من رجال أعمال أشبه بسلوك المجاهدين القدامى، والذين يحرصون على أداء صلاة الفجر في وقتها، قبل أن ينطلقوا قبل طلوع الشمس في مهمة قطع طرق الحجاج، كذلك هؤلاء لا يترددون في قطع الأنظمة من أجل تكوين الثروات، يساعدهم في ذلك أن تلك الأنظمة متوقفة عن التطبيق، بل أن كثيراًَ من شركاتهم وهمية، ومجرد حبر على ورق، ولكنهم سباقون في تقديم عروضهم في كل مناقصة حكومية، وبعد الظفر المتوقع بالمشروع يتم بيعه في المزاد العلني في سوق الشركات والعمالة الأجنبية.
باختصار، التنمية الحقيقية في المملكة لن تحدث من خلال القطاع الخاص، لأن كثيرا من رجال الأعمال لم يكونوا في حقيقة الأمر قصص نجاح حقيقية، ولكن دخلوا عالم المشاريع والاقتصاد بسبب تداخل غير صحي بين السلطة والاقتصاد، وبسبب استغلال البعض لعلاقاتهم مع بعض المسئولين، وعبر عقود الباطن مع شركات وعمالة أجنبية، لذلك لن يكون هناك حل إلا من خلال الشركات العملاقة التي يكون خلف تأسيسها الدولة بمشاركة المجتمع، كما حدث في قصة الجبيل وينبع، ويدخل في ذلك مشاريع معادن العملاقة ورأس الخير والطاقات المتجددة، كما لا زلنا في حالة انتظار لانطلاق مشاريع شركات كبرى في حجم تويوتا وسوني وسامسونج، وذلك من أجل الانتقال فعلياً من الاقتصاد الاستهلاكي إلى الاقتصاد المنتج، ومن خلال هذه الخطوات، حتماً سنخرج من مجتمع ريعي يعتمد على جهد العمالة الأجنبية إلى مجتمع يعمل ويحترم قيم العمل ويحرص على مصلحة الوطن.