|
أشوكا مودي - برينستون- - خاص الجزيرة:
في الأسبوع الماضي، وفي خطاب مرتقب، حذَّر الرئيس الألماني يواخيم جاوك من السعي الأعمى نحو اتحاد أوروبي «متزايد التقارب»، واعترف بأن التفاوت المتنامي بين الدول الأعضاء يعمل على توليد «شعور بعدم الارتياح، بل حتى الغضب الواضح»، وزيادة خطر المذلة الوطنية. كما أشار إلى أنه بجانب الأزمة الاقتصادية هناك «أزمة ثقة في أوروبا كمشروع سياسي».
وفي حين أوضح جاوك أنه لا يزال باقياً على تأييد أوروبا، فقط سلط الضوء على الحاجة إلى التفكير المتأني في مستقبل أوروبا، وبشكل خاص مستقبل منطقة اليورو. ورغم اقترابهم من تحقيق قدر أعظم من التكامل فإن الأوروبيين مترددون، لا يدرون ما إذا كان عليهم حقاً أن يقطعوا خطوات أخرى إلى الأمام على الطريق. وأضاف جاوك بأن معالجة هذا التردد سوف تتطلب فهماً دقيقاً للمغزى الحقيقي من «المزيد من أوروبا».
ولعل جاوك لم يذهب بعيداً بالقدر الكافي: فعند هذه النقطة قد يكون الاتحاد المتزايد التقارب مجرد سراب سياسي. وأي تقدم ملموس نحو تثبيت استقرار منطقة اليورو سوف يتطلب التزاماً مالياً، وربما مفتوحاً، والاتحاد الأوروبي ليس مستعداً بعد على المستوى السياسي لعبور هذه العتبة. ومن المؤكد أن التظاهر المتكرر بالمضي قدماً، ثم التراجع عند النقطة الحرجة، يؤدي إلى تفاقم حالة عدم اليقين السياسي والضعف الاقتصادي.
وبدلاً من السعي المتردد المرتبك نحو المزيد من الوحدة فإن اللحظة الحالية قد تكون مناسبة لاستعادة السيادة الفعلية على السلطات الوطنية في بلدان منطقة اليورو. ومثل هذا التحرك من شأنه أن يخفف من التوتر في الأمد القريب؛ وبالتالي يمنح الأوروبيين الفرصة لإعادة تنظيم الصفوف استعداداً لخطوات أخرى في المستقبل نحو أوروبا الأكثر تكاملاً واليورو الأكثر مرونة.
ولتحقيق هذه الغاية يتعين على زعماء منطقة اليورو أن يتخذوا ثلاث خطوات أساسية: فلا بد أولاً من تفكيك نظام الإدارة المالية المختل في أوروبا، ولا بد من إعادة المسؤولية المالية إلى الدول الأعضاء، ومن أجل الحد من مخاطر الإقراض المفرط في المستقبل لا بد من إلزام المقرضين من القطاع الخاص بتحمل الخسائر المترتبة على الديون السيادية غير المستدامة.
إن الحجة ضد الإدارة المالية الأوروبية واضحة ومباشرة، فقبل الأزمة أدى التأكيد الجازم على تقليص عجز الموازنة الوطنية إلى أقل من 3 % من الناتج المحلي الإجمالي إلى تلاعب واسع النطاق. فاستهزأ البعض بهذا الهدف علناً، كما حدث في اقتصادات رائدة مثل ألمانيا وفرنسا، أو تلاعب البعض بالبيانات من أجل حجب المشكلة (وهي الممارسة التي شاعت في مختلف بلدان منطقة اليورو، وليس اليونان فحسب). كما أدى الاعتقاد في النمو الاقتصادي باعتباره علاجاً مالياً شافياً من كل داء إلى توقعات مفرطة التفاؤل فيما يتصل بنمو الناتج المحلي الإجمالي.
وعندما اندلعت الأزمة تحول هدف العجز الأقل من 3 % إلى بؤرة تركيز للتقشف الصارم، وهو شكل من أشكال ما أطلق عليه عالم الأنثروبولوجيا كليفورد جيرتز وصف «الارتداد»، الذي يحدث عندما تؤدي عملية ما إلى تكثيف الاستجابة للضغوط الخارجية أو الداخلية بدلاً من تغييرها. وبعبارة أخرى، بدأ زعماء الاتحاد الأوروبي في تعقيد الإدارة المالية، فخلقوا في نهاية المطاف متاهة لا مفر منها من التنظيمات والقيود البيروقراطية. ومع تزايد تعقيد المقاييس المالية فإن تقويض جهود المراقبة سوف يصبح أكثر سهولة من أي وقت مضى.
وتتسم الحجة الداعمة لإعادة المسؤولية المالية إلى السلطات الوطنية بالقوة أيضاً، وليس فقط لأن السلطة المالية المركزية أثبتت عدم كفاءتها. فمع تحمُّل مواطني الدول المتعثرة للأعباء المالية التي تفرضها الأزمة أصبح الافتراض الدائم بأنهم لن يتصرفوا بمسؤولية مهيناً، في أفضل تقدير. والواقع أن الاستراتيجية الحالية القائمة على تبادل «الحلوى» في مقابل السلوك الطيب تشجع على ممارسة اللعبة، وتخفف من المسؤولية. وفي حين تظل المخاوف من استسلام الحكومات للإغراءات المالية باقية فإن المعاناة التي يعيشها المواطنون حالياً من المرجح أن تعمل على ردع التجاوزات في المستقبل.
إن السيادة المالية الوطنية من شأنها أن تيسر اتخاذ الخطوة الحاسمة الأخيرة: بناء علاقة أكثر نضجاً مع المقرضين من القطاع الخاص. لقد تأسست منطقة اليورو على مبدأ «عدم الإنقاذ»: فإذا لم تتمكن الدول الأعضاء من سداد ديونها فإن المقرضين يتحملون الخسائر. ولكن المقرضين اختاروا - وكان اختيارهم صحيحاً كما تبين لاحقاً - تجاهل ذلك التهديد. فبدلاً من فرض مبدأ عدم الإنقاذ بما يشكِّل سابقة استخدمت الدول المدينة القروض الرسمية للسداد للدائنين من القطاع الخاص.
ونتيجة لهذا فإن هذه البلدان حكمت على نفسها بالتقشف المستمر، وتدني معدلات النمو، وارتفاع مستويات الدين، في حين تضاءل أي حافز قد يدفع المقرضين من القطاع الخاص في المستقبل إلى فرض الانضباط المالي على المقترضين السياديين. ولن تتمكن الدول المدينة من الإفلات من هذا المستنقع إلا من خلال إعادة عبء المسؤولية إلى المقرضين من القطاع الخاص.
في الولايات المتحدة، كل ولاية مسؤولة عن إدارتها المالية، من دون إرغامها على الالتزام بقالب واحد شامل. ولا يتم تنظيم الولايات بواسطة الحكومة الفيدرالية؛ بل يعمل إدراكها لحقيقة مفادها ألا أحد سوف يسدد عنها ديونها وإرغامها على الانضباط مالياً. ويبدو أن هذا النظام ناجح؛ فعندما دخلت الولايات الأمريكية الأزمة كانت نسب العجز والديون لديها أقل كثيراً من مثيلاتها لدى الدول الأعضاء الضعيفة في منطقة اليورو.
وحتى الآن، كانت عملية التكامل الأوروبية أشبه بـ»السقوط إلى الأمام»، حيث تشكل كل عثرة درساً ينشأ عنه اتحاد أكثر قوة. ولكن في حين قد يكون هذا التوجه غير المؤكد كافياً كأساس للإعلان عن حسن النوايا فإنه لا يبث القدر اللازم من الثقة لحمل الدول على تقديم الالتزام المالي العميق المطلوب الآن.
ينبغي للأوروبيين أن يحصلوا على الفرصة لاستعادة مواطئ أقدامهم. وإعادة المسؤولية المالية إلى السلطات المالية لن تعني فحسب نهاية الجهود الهدّامة الرامية إلى إدارة الشؤون المالية مركزيا؛ بل إنها تعني أيضاً الحد من الشعور بالإحباط والافتقار إلى القدرة على السيطرة الذي يغذي التشكك في أوروبا.
وباختصار، فإن اتخاذ خطوة إلى الوراء من شأنه أن يوفر الفرصة لإعادة الضبط والتأمل والتخطيط لأفضل مسار باتجاه أوروبا الأكثر استقراراً وتكاملاً. ولكي يؤدي الاتحاد المالي وظيفته بنجاح ـ ولو أن هذه النتيجة قد تكون غير مرجحة - فإن الأمر يتطلب إرساء أسس راسخة. وكما شرح جاوك، فإن الأوروبيين «يتوقفون لتجهيز أنفسهم فكرياً وعاطفياً للخطوة التالية، وهو ما يستلزم الدخول إلى مناطق غير مأهولة».
إن إعطاء الأوروبيين الوقت والمساحة اللازمة لاختيار المزيد من التكامل الأوروبي من شأنه أن يعزز القيم الأساسية التي استند إليها التكامل لأكثر من ستة عقود من الزمان. ولكن الاستمرار في التعثر إلى الأمام سوف يؤدي حتماً إلى سقطة منهكة، إن لم تكن قاتلة.
أشوكا مودي رئيس بعثة صندوق النقد الدولي الأسبق إلى ألمانيا وإيرلندا، وأستاذ سياسات الاقتصاد الدولي الزائر لدى كلية وودرو ويلسون للشؤون العامة والدولية في جامعة برينستون حالياً.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2013.
www.project-syndicate.org