في عصر يموج بالفتن والقلاقل، وفي بيئات مضطربة تتنازعها الطائفية، وتعصف بها الأهواء السياسية، وتعاني من تبعات التدخل المباشر وغير المباشر من الدول في الشؤون الداخلية لدول أخرى. في مثل هذه الظروف والأحداث من المهم للإنسان بشكل عام، وللمثقف بشكل خاص أن يلتفت إلى بيئته، إلى موطنه، إلى تاريخه، إلى أصول دينه، ليقيم واقعه من تلقاء نفسه بشيء من الإنصاف، قبل أن يقيّمه الآخرون، ويضعون كل حركاته وسكناته على السفود.
هذا المدخل ما هو إلا توطئة لحديث، عميق نوعا ما، عما يجهله الكثير عن بيئتنا، وفي بلدنا، فقد كان ولا يزال، وسيظل تسوده قيم التسامح، والوسطية، والانفتاح، والاعتدال في السلوك، ونبذ الحزبية والطائفية، والتعامل المثالي المنشود بين أفراد وطوائف هذا المجتمع المسلم الذي يعيش فوق أرض هذا الكيان الكبير، منذ أن توحّد على يد المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن -رحمه الله-، وسار على نهجه وسياسته ومنطلقاته في توطيد أركان النظام أبناؤه البررة من بعده، وهي ثمرة بلا شك من ثمار الاتفاق التاريخي والعهد الوثيق بين الإمامين (محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب)غفر الله لهما.
حكاية عفوية جرتها أحاديث وديّة على لسان أحد أبناء مدينة (الأحساء)، وهو يتحدث عن التكوين الثقافي، والديني، والاجتماعي له ولغيره من أبناء تلك البيئة، الضاربة في التاريخ، ذات التنوع الثقافي الفريد، إذ يدين بالفضل بعد الله، في تعليمه هو وصبيان الحي، بنين وبنات مبادئ القراءة والكتابة، والقصير من سور (القرآن الكريم )،وقبسٌ من الهدي النبوي لجارتهم المسلمة (شيعية المذهب). كلا الجنسين، وبحكم السن، تدارسا تحت سقف واحد، وربما عادل هذا السن آنذاك السنوات التمهيدية، أو الأولية في عصرنا الحاضر.
ذلك الحديث العفوي يذكرني بالبساطة والانطلاق التي كان يتمتع بها (غازي القصيبي)، و(عبد الرحمن الرفيع)، وهما يرويان أجزاء من السيرة الذاتية بقوالب مختلفة، وأعتقد أنهما تزامنا، وربما كان من المجايلين لهما، وتأثر بهما منهجا وسلوكا، علما وعملا، لاسيما والموارد، أو مصادر التعلم، وظروف النشأة والتكوين واحدة.
لا أجانب الحقيقة إذا قلت إن مثل هذا المقتطفات الشائقة من الذكريات الشفوية، والمكتوبة عند البعض تؤرخ للفترة التي عاشوها، وما قبلها،أي ما قبل (خمسين عاما) من هذا اليوم، وبالتحديد لأواخر السبعينات من القرن الماضي للهجرة النبوية.
مثل هذه الحكايات العابرة قد تجد من تغيب عن ذهنه الدور الكبير للمرأة في تعليم الصبيان، وبخاصة والكثير منا، ومنذ أن استهل الحياة، وهو يلامس مسمعه شيء من الجدل الشرعي والاجتماعي حول الدمج والاختلاط، وربما اقتحم مثل هذا الصراع البيوت، وداخل أقطاب الأسرة الواحدة، وكان أحد أسباب الفرقة. يسمع شيئا من هذا، وأجزاء من الجدل حول الطائفية الممقوتة التي أمست تفرق بين الكيانات المجتمعية الواحدة. وهنا يقع الإنسان أيّاً كان عمره في ازدواجية الإرث الثقافي الذي ينهل منه، عبر أوعية علمية مختلفة، وبين السلوك الذي يعيش ضجيجه، آناء الليل، وأطراف النهار، عبر وسائل الإعلام الفضائية، وقنوات التواصل الاجتماعي غير المنضبطة.
لعل مما له صلة بهذا الطرح،عميق المغزى لدي معرفة السر الحقيقي على إصرار من عايشوا تلك الفترة، وجهادهم المستمر والمستميت عبر المنابر الثقافية ضد من سلك مسلكًا متشددًا في مثل هذه الموضوعات، أو القضايا، وقد يتهمون بفكرهم بالجهل، والانحراف، أو البعد عن فقه الواقع، والاستقراء الحقيقي للتاريخ السياسي والاجتماعي للدول.
أطروحاتهم، قد يمررها الكثير،بحكم أنهم غير محسوبين على رجال الدين، أو حاملي لواء الإصلاح، حقيقة، أو زعمًا، لكن، وحينما يتم التناول لهذه القضايا من قبل بعض العلماء الشرعيين، فالأمر مختلف جدا، لاسيما ووقائع الحال تدل على ذلك!!
dr_alawees@hotmail.com