كنت سائراً في كتابتي عن إنتاج الدكتور الخويطر، في سلسلة كتابه هذا الذي هو رصد لذكريات مرت به في الأعداد السابقة، وفيها عصارة أفكاره: بما يرصد وبما استخلص من الكتب التي قرأ في نهاية كل أسبوع،
وقد كان نشيطاً وحريصاً في مشاركة القارئ لفوائد مرت به، وينطبق عليه قول الشاعر:
العلم صيد والكتابة قيده
قيّد صيودَكَ بالحبال الموثقة
أمد الله في عمره ليزداد إنتاجه، إذ في هذا العام 1434هـ أصدر ثلاثة كتب، وليس كالمعتاد، وأعتذر لمعاليه من السهو في تحديد الجزء في الأعداد السابقة، والعفو عند كرام القوم مقبول، وقد أنجز مثلما أنجز السابقات وبمثل ما كان يكرر في مقدمة الأجزاء، بأن التأريخ الحقيق الصادق، هو فيما يكتب في الذكريات الشخصية على شرط أن تكون صورة صادقة لا مغالاة فيها ولا تفاخراً ولا تميزاً، ولا ميلاً إلى فئة وصدوداً عن فئة، ولا تفخيماً للذات وادعاء فضلها فيما لا فضل لها فيه، إلى حين اكتب مذكراتي لا أكتب عن عبدالعزيز الخويطر، إني بما أكتب مؤتمناً على صورة الجيل الذي أمثله، فإذا أنا أمام مسئولية عظمى وحمل ثقيل.
ولهذا أحاول ألا أهمل الأمر الصغير، فهو وإن كان صغيراً اليوم، فهو بمرور الزمن كبير، وهذا وحده مما أراعيه في هذا المجال، ومثله تكرار الحوادث المتعددة الثابتة، فلا أقول في سطر أو سطرين إن مجلس الوزراء يعقد يوم الاثنين من كل أسبوع، وقد عُقد في هذه كذا مرة، ولكن هذا السطر أو السطرين لا تروي نهم الباحث في المستقبل، إنه يود أن يعرف تاريخ كل جلسة، وأين جُلست، ولماذا أُلغيت إذا أُلغيت، والحرص على ألا تُلغى، وإذا أوجب الظرف إلغاءها فمتى يكون التعويض؟. إن أمانة التاريخ وحق الوطن وحق من أشارت إليهم المذكرات يقتضي مني الحرص على الصورة الدقيقة والأمينة، ثم انتقل لعمله حيث قال: لا أزال وزيراً للمعارف (التربية والتعليم حالياً) وعملي الأساس هو فيها، ثم أضيفت لي وزارة في التعليم العالي، بعد وفاة وزيرها الشيخ حسن رحمه الله، وبقيت فيها ما يقرب من السنة لأخبارها نصيب من هذا الجزء كما سيرى القارئ.
لا أريد أن أطيل في هذه المقدمة، ففي مقدمات الأجزاء السابقة، ما يعطي فكرة عن نهجي في هذه المذكرات، ولكني سوف أذكر أمراً جاء شيء محدود عنه في بعض الأجزاء السابقة، وهو ما أدخلته من تطوير على ما أدرجته في مذكرات آخر كل شهر في هذا الجزء، بعد ذكرى لأبرز: حوادث الشهر داخل المملكة وخارجها وما كان شغل الإعلام الشاغل، أتبعتُ ذلك ببعض القصص التي سمعتها في هذا الشهر لأني عددتها من مذكراته ومن حق القارئ أن يعرف ما مر أمام عيني في هذا الشهر أو طرق أذني ولا حجة لي في اسقاطه.
وتلا ذلك اختيار بعض القصص أو الحوادث أو الأمثال أو الحكم التي مرت بي في ذلك الشهر مما قد يكون مر فقد يكون مر في أحد كتبي الأخرى، خاصة إطلالة على التراث، ومجيئه هنا يدل على أن هذا وقت اختياره، ثم يلي ذلك الألغاز التي سمعتها في هذا الشهر أو قرأتها، والألغاز مهمة لأن فيها عصارة فكر سواء كان ذلك من الملغِز، أو من يتصدى لحل اللغز، والألغاز من المسائل الفكرية الجذابة التي لا يستطيع من سمعها أو تصدى لها إلا أن يستمع إليها بإنصات ويشارك فيها مشاركة فعالة.
ثم يلي ذلك كلمات عامية أسمعها أو آتي بها في محادثة مع جلساء، إلى آخر ما ذكر في هذه المقدمة (5-11) الذي أبان فيه منهجه في مذكراته الأخيرة وسوف نسير على خطواته.
وقد افتتح العام 1413هـ بأبيات يعرفها من الصغر، تعلمها في المرحلة التحضيرية وهي 4 نثبت هنا اثنين هما:
الحيوان خَلق
له عليك حق
من حقه أن يُرفقا
به والآن يرهقا
(ص 13) ونغمتها جذابة لأغاني الأطفال.
وفي ص 23 ثم بحث بقية الحدود بيننا وبين اليمن في هذه، وجلسة أخرى في اليوم التالي ولم يَبدو لي أنهم جاؤوا بصيغة واضحة عما يريدون لتكون عليها المفاهمات خلاف ما لدينا من توجيهات واضحة.
أما مذكرات شهر محرم فجاء فيها قيام مشكلة وفريق الأمم المتحدة حول سعي العراق لامتلاك قنبلة ذرية، وعن حوادث البوسنة والهرسك حيث وصلت الإمدادات إلى المطار لإغاثة المتضررين، وأخبار الانتخابات الأمريكية ثم المباحثات مع الإخوة اليمنيين مهمة، وتدبر أمر بعض الناس واستغرب حالهم وتصرفهم تجاه ماضيهم ووجدهم يختلفون الاختلاف في الشعور تجاه هذا الماضي، فإذا كان بسيطاً متواضعاً وكانت حالة فيه فقيرة فهناك من يخجل من هذا الماضي ويحاول تفادي الحديث عنه، أو كشف طبيعة الناس إلى آخر ما ذكر في الموضوع من خلاف (ص 32 - 36).
وفي النباهة والذكاء ذكر قصة سرقة خزينة أحد الملوك فقال: لم يعرف سارقها أو سارقوها فتعهد حكيم أن يساهم في البحث ومعه عدد من رجال السلطان، فرأى رجلاً يعلف جملين وبجانبه ميزان، وقبل أن يلجم أحدهما يزن لقمته وهكذا مع الثاني فقال له الحكيم: لماذا تفعل هذا؟ قال: أخشى أن أعطي أحد الجملين أكثر من الآخر فأحاسب على ذلك يوم القيامة. فقال لمن معه: أمسكوه فهذا من السارقين.. ثم تتبع سيرهم بحيلهم حتى أمسكوهم جميعاً. وهي قصة طريفة في الذكاء والحيل (ص 36 - 39) وقال عنها هذه من حكايات قبل النوم من الأمهات لأبنائهن.
وقد نقل حكايات من مختارات أبو عثمان المازني، ومن كتاب نزهة الألبّاء لإبراهيم بن نفطَويه، والموسّى الذي أعجبه منه هذه الأبيات:
كم قد خلوت بمن أهوى فيمنعني
منه الحياء وخوف الله والحذر
كم قد خلوت بمن أهوى فيقنعني
منه الفكاهة والتحديث والنظر
أهوى الملاح وأهوى أن أجالسهم
وليس فيّ حرام منهموا وطر
كذلك الحب لا اتيان معصية
لاخبر في لذة من بعدها سقر
والأبيات تروى لأبي عبدالله الواسطي وذكر معها أبيات أخرى وألغاز لأنه يحب الألغاز والكلمات العامية (ص 39-45).
وأورد قصة، قال إنه سمعها من أحد الإخوان، قال: في إحدى المرات التي كان الملك عبدالعزيز يرحمه الله يتفاوض مع الإنجليز أدركتهم المغرب، فقاموا يصلون، فأمهم إمام الملك عبدالعزيز، ويبدو أن في نفسه شيئاً من مفاوضة الملك عبدالعزيز للإنجليز (الكفار)، فقرأ من سورة (هود) الآية الكريمة (113) {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ}.
فأدرك الملك عبدالعزيز قصده، وأراد أن يوقف التفكير في هذا الاتجاه، فجذب الإمام إلى الصف وتقدم وأكمل الصلاة وقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ولا أنَا عَابدٌ ما عَبدتُّم وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} سورة الكافرون.
ثم تبع هذا بكلمة السطوة وقال: إن هذه الكلمة الهجوم وهي كلمة اصلها عربية ولكنها استعملت في العامية كثيراً وعند مؤرخي نجد.
ثم أورد الآية الكريمة 72 من سورة الحج وسُعدت أن أعرف أنها جاءت في القرآن واطمأننت إلى فصاحتها وأنه لن يعسر كل عربي أن يفهم معناها والقصد منها (ص 135-137).
وفي ص51 ذكر صديقه عبدالله الشافي، فهو مع صداقته قريب وحبيب وخبير بالأمور الاجتماعية في جدة، بعد أن سكنها بعد سكناه في الطائف، إلى رئاسته لمكتب فرع هيئة الرقابة والتحقيق مما جعله يرتاح في جدة وألجأ إليه كلما احتجت إلى أمر يخصني، وقد كتبت يوم الثلاثاء من هذا الأسبوع في المفكرة إعطاءه أرقام حجز الأهل من مصر.
واستفتح مذكرات شهر صفر بتهديد أمريكا للعراق في عدم سماحه بالتفتيش من قبل فريق الأمم المتحدة عن الأسلحة الذرية، ثم ما شغل العالم باستمرار الصرب في ضرب البوسنة والهرسك، ثم مما اعتنت به وسائل الإعلام تجاه إسرائيل، وعن القذافي والسَّعدني قال: كنت في مكتب صاحب السمو الأمير سلطان رحمه الله في ديوان الرئاسة قاعداً بين الشيخ ناصر الشثري وعلي الشاعر، وجرى الحديث عن القذافي وهو دائماً مادة للحديث ومفاجآته. وذكر عن الشيخ ناصر الشثري بأن محمود السعدني قص عليه قصة عن القذافي بأن السعدني قد طلب منه القذافي أن يتعاون معه على اصدار مجلة تخدم العرب، ومحمود زاره عدة مرات لتحقيق هذه الرغبة، وكل مرة يؤجل، فقال له السعدني إنك كخصيّ يشتهي ولا يقدر. ثم تحدث عن الصحة تاج بالرقم (6) وعن داء السكري والمعدة والأمعاء وغيرها (ص59-73).
وكان يحب المزاح والفكاهات فروى عن الأعمش في كتاب المزاح في المزاح الذي قرأه فقال: من القصص التي تروى عن الأعمش مشتملة على طرائفه: فقد وقع بينه وبين زوجته وحشة، فسأل بعض أصحابه ويقال له أبو حنيفة، أن يصلح بينهما فقال: هذا سيدنا وشيخنا أبو محمد، فلا يزهدنك فيه عمش عينيه، وخموشة ساقيه وضعف ركبته وقزل رجليه، وجعل يصف، فقال الأعمش قم عنا قبحك الله فقد ذكرت لها من عيوبي ما لم تكن تعرفه (74-75).
وعن المأمون فقد أعجبه قوله: إن أهم الأمور كلها: أمور القضاة والحكام: إذ كنا غدا لزمناهم النظر في الدماء والأموال والفروع والأحكام، فوددت أني أجد مائة حاكم وأني أجوع يوماً وأشبع يوماً (ص 74-75).
ونقل عن المحاسن والمساوئ للبيهقي وسماه درّة من زمرد: قوله: ما على الإنسان أن يكون حضارياً في تصرفاته، وأولها الرد على سؤال مفاجئ يحمل ثقلاً كبيراً فيكون الرد سريعاً وساراً، وذو نفع ممن يملك النفع بما حباه الله، وهنا امرأة عمدت إلى جابة تفتح القلب وتحرك الإعجاب، فقد وقف المهدي من امرأة فقال لها: ممن العجوز؟ قالت: من طي. قال: ما منع طياً أن يكون فيها آخر مثل حاتم؟ فقالت: الذي منع العرب أن يكون فيها آخر مثلك. فأعجب بقولها ووصلها (75-77).
فكتابه هذا الذي بلغت صفحاته 669 منها المتن 583 صفحة والملحقات والفهارس والصور البقية فيه معلومات أنصح كل مهتم وأديب بقراءته لأن فيه اختيارات منقّاة تفتح القرائح وفوائد من خلاصة قراءة المؤلف.
mshuwaier@hotmail.com