نشأ محمد بن عياش المعروف بابن الحاج البِلّفيقي في بلدة (الميرية) ورحل إلى غرناطة، ليتقلد القضاء بمدينة (مالقة)، ثم أضيفت إليه الخطابة. ووالده كان من العلماء ذوي الشهرة في العلم والزهد، وفيه قال السلطان أبو يوسف ملك المغرب: “كل رجل صالح دخل علي كانت يده ترعد في يدي إلا هذا الرجل، فإن يدي كانت ترعد في يده عند مصافحته”.
ولنبدأ مع بعض أشعاره البديعة التي تتسم بالعفاف والزهد، لكنها لا تخلو من لمسات عاطفية، ومنها قوله في معنى مستحدث جديد في من عينه زرقاء:
حزنتْ عليكَ العينُ يا مغنى الهوى
فالدمعُ منها بعدَ بُعْدِكَ ما رقَا
ولذاك قدْ صُبِغَتْ بلونٍ أزرقِ
أواَ ما ترى ثوبَ المآتمِ أزرقا
ونستنتج من عجز البيت الأخير أن لباس المآتم كان أزرق، بينما كان اللون الأبيض قبل ذلك هو لون لباس المآتم في الأندلس.
وكان يلازم البناء وحفر الآبار، فتعجب الناس من فعله مع مكانته العلمية والاجتماعية وقدراته المالية، فقال مجيباً في ذلك:
في احتفار الأساس والآبارِ
وانتقالِ التُراب والجيَّارِ
وقعود ما بين رملٍ وآجُرٍ
وجصٍ والطُّوبِ والأحجارِ
وامتهانيَ بُرْدِيَّ بالطينِ والماءِ
ورأسي ولحيتي بالغُبارِ
نشوةٌ لم تمُرَّ قطُّ على قلبٍ
خليع وما لها من خُمارِ
ومن قصصه أنه لما طلَّق الشيخ أبو البركات زوجته الحرة العربية أم العباس عائشة بنت الوزير أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الكتاني ثم المغيلي طلقة واحدة، كتب نسختها بما نص: “بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد وعلى آل محمد، يقول عبد الله الراجي رحمته محمد المدعو بأبي البركات بن الحاج خار الله له ولطف به: إن الله جلت قدرته لما أنشأ خلقه على طبائع مختلفة، وغرائز شتى ففيهم السخي والبخيل، والشجاع والجبان، والغبي والفطن، والكيس والعاجز، والمسامح والمناقش، والمتكبر والمتواضع، إلى غير ذلك من الصفات المعروفة من الخلق، وكانت العشرة لا تستمر بينهم إلا بأحد أمرين: إما بالاشتراك في الصفات أو في بعضها، وإما بصبر أحدهما على صاحبه إذا عدم الاشتراك. ولما علم الشارع أن بني آدم على هذا الوضع شرع لهم الطلاق ليستريح إليه من عيل صبره على صاحبه، وتوسعة عليهم، وإحساناً منه إليهم، فلأجل العمل على هذا طلق كاتب هذا عبد الله محمد المذكور زوجه الحرة العربية المصونة عائشة ابنة الشيخ الوزير الحسيب النزيه الأصيل الصالح الفاضل الطاهر المقدس المرحوم أبي عبد الله محمد المغيلي طلقة واحدة ملكت بها أمر نفسها دونه عارفاً قدره، قصد بذلك إراحتها من عشرته طالباً من الله أن يغني كلاً من سعته مشهداً بذلك على نفسه في صحته وجواز أمره يوم الثلاثاء أول يوم من شهر ربيع الثاني عام أحد وخمسين وسبعمائة”. أليس ذلك يختلف عن الطريقة التي يتم بها الطلاق في عصرنا الحاضر؟!
ومن مُلحِهِ ما نقله له لسان الدين ابن الخطيب عنه حيث بات في الحمام منفرداً، فانطفأ المصباح وتخيّلَ الجنَّ، فقال: “وبت بحمام الخندق من داخل مدينة ألمرية ليلة الجمعة الثامن من شهر محرم عام اثنين وثلاثين منفرداً، فطفى المصباح، وبقيت مفكراً، فخطر ببالي ما يقول الناس من تخيل الجن في الأرحاء والحمامات، وعدم إقدام كافة الناس إلا ما شذ عند دخولها منفردين بالليل، لا سيما في الظلام، واستشعرت قوة في نفسي عند ذلك، وأدركت أنها أعراض وأوهام، فقلت مرتجلا، رافعاً بذلك صوتي:
زعم الذين عُقُولُهُم قدرُها
إنْ عُرضت للبيعِ غيرُ ثمينِ
أنَّ الرَّحا معمورةٌ بالجِنِّ
والحمَّامُ عندهمُ كذا بيقينِ
إن كانَ ما قالوه حقاً فاحضروا
للحربِ هذا اليومُ منْ صِفّينِ
فلئن حضرتُم فاعلموا بحقيقةٍ
أني مُصارع قيسٍ المجنونِ”
وأقول: وما أكثر من ربط كل شيء بالجن في عصرنا الحاضر، وزاد عليه العين والسحر حتى أصبح البعض مصاباً بأمراض نفسية من خلال ولعه بالمبالغة في هذه القناعات.
وفي ملحة أخرى يحكي عنه ابن الخطيب قوله: ودخلت رياضاً يوماً، فوجدت كساء منشوراً للشمس لم أعرفه من حوايجي، أو من حوايج حارسة البستان، فسألتها، فقالت: هو لجارتي، فقلت:
مَنْ مُنصفي من جارتي جارتْ على
مالي كأني كنتُ من أعدائها
عَمَدَت إلى الشمس التي انتشرت على
أرضي وأمَّتْ فيه يُبْسَ كسائها
لولا غيومٌ يومَ تَيَبَّسَ الكسا
سارت لحَجْبِ السُّحْب جُلَّ ضيائها
لقضيتُ منهم الخسارَ لأنني
أصبحتُ مُزْوَرّاً على بُخلائِها