منذ اللحظة التي أعلنت فيها أمريكا انتهاء معاركها العسكرية في العراق، طرحت وبقوة فكرة تطبيق الديمقراطية في الدول العربية التي حُرِمت منها، واعتبرت أن غياب الحرية والديمقراطية سيجعل من منطقة الشرق الأوسط أرضاً خصبة للتشنج ومشاعر الغضب والعنف الجاهز للتصدير، ثم إنها ربطت خطتها حول الديمقراطية بمشروع شراكة اقتصادية وتجارية في المنطقة..
.. معادلة طرحتها وتحدثت عنها بإسهابٍ شديد عما تتصوره استحقاقاً لشعوب منطقة الشرق الأوسط نحو مزيدٍ من الحرية ونشر الديمقراطية.. سعت إلى تسويقها وأنكرت وجود أي صلةٍ بينها وبين قضية السلام والصراع القائم مع إسرائيل، وليس ذلك من باب الحرص على شعوب هذه المنطقة التي تموج في خضم بحر هائج من متغيرات وتحديات وصراعات حزبية وطائفية لا تنتهي، بل هي إستراتيجية ممنهجة انهمكت مراكز الأبحاث وإدارات التخطيط الأمريكية على رسمها وفق خططٍ رأت أنها ضرورية لإحداث تغيير في منطقة الشرق الأوسط.. وذلك بما يتناسب مع أهدافها ومصالحها المتمركزة في المنطقة.. وحتى يومنا هذا ما زالت المعضلة الحقيقية التي تواجه العالم العربي هي الاقتناع التام بزيف الادعاءات الأمريكية التي ترفض الاعتراف بحقيقة أهدافها، المتلخصة في إقامة قاعدة إستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط تضمن لها السيطرة على منابع النفط.. وقمع الحركات الراديكالية المناوئة لها.. والوقوف في وجه الجماعات المتطرفة المعادية للنفوذ الأمريكي والأهم من ذلك كله.. حماية الوجود الإسرائيلي في المنطقة لتكون نقطة تجمعٍ للحركة الصهيونية العالمية في إطارِ دولة إسرائيل، وبالتالي تعزيز قدراتها العسكرية لمواجهة أي أحداثٍ طارئة خاصة مع إيران.
إذن لم تكن قضية الديمقراطية التي نادت وما زالت تنادي بتطبيقها في العالمِ العربي تثير سياستها بأي شكلٍ من الأشكال.. إلا أنه ومن المفارقات العجيبة أن تأتي هذه المناداة بتطبيق الديمقراطية في العالم العربي في وقتٍ يشهدُ فيه العالم بأجمعه تغيُّراً وتطوراً وتقدماً مذهلاً بينما عالمنا العربي ما زال يبحث عن محركات التقدم من خارجه في ظل غياب الإصلاح والتجديد وتطبيق مبادئ الديمقراطية والتي يُفتَرض أن تُشعِل جذوتها أصواتُ الداخل العربي، لا أن تفرضها عليه الإملاءات الخارجية.. بمعنى أن تأخذ الأنظمة العربية والإسلامية المبادرة بيدها دون الخضوع لأطروحات من يتسابقون على نزفِ الوطن العربي سياسياً واقتصادياً وثقافياً.. أو الاستسلام لمراوغات القوى الخارجية التي جعلت من المنطقة العربية حقل تجارب لها تفرض بالقوة العسكرية وبالغزو الاقتصادي والثقافي أوضاعاً تثير التوتر وتخلق الصراعات على امتداد الوطن العربي وبدرجات متفاوتة.. وتبقى المجتمعات العربية بأكملها شاخصة الأبصار تذهلها أصوات الجدال والسجال تأتيها من كافة الاتجاهات.. من الجامعة العربية.. من منظمة العالم الإسلامي.. من مؤتمرات واجتماعات تُعقد بين الفينة والأخرى، وبعدها تتمخض نتائج تبقى حبراً على ورق.
لقد أصبحت المنطقة العربية والإسلامية كريشة في مهب الريح تتنازع لالتقاطها القوى الدولية، لالتقاطها بتحديات تترى تباعاً واحدة تلو الأخرى.. وكلٌ ينتزع لنفسه الحق في إعادة تشكيل المنطقة وفقاً لمصالحه وأهدافه يغريها في ذلك حالة الفراغ السياسي والصراعات الطائفية والحزبية.. والتراجع الاقتصادي والوهن الاجتماعي وانتشار الجماعات المتطرفة المعارضة لأنظمة الحكم العربية.
صحيحٌ أن الشعوب العربية تُقلِقُها أوضاعها الداخلية من فسادٍ واستبداد.. وتعثُّرٍ في الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وصحيحٌ أن أوجه القصور أكبر بكثير من درجات التقدم والتطور.. وأن العقبات في وجه تحقيق الديمقراطية تحتاج إلى وقت للقضاءِ عليها حتى نشهد حوافزها واقعاً ملموساً على أرض الواقع.. وصحيحٌ أيضاً أن كافة الشعوب العربية ترفض تنامي الجماعات المتطرفة التي زرعت الإرهاب الداخلي والدولي، بل حاربته وما زالت تحاربه.. لكنها في ذات الوقت ترفض كل مزايدات ومراوغات القوى الدولية التي تُراهن على اقتسام الكعكة.
zakia-hj1@hotmail.comTwitter @2zakia