منذ بداية أوسلو مرورا بمدريد ثم (بخارطة الطريق) في عهد الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش ثم مبادرة السلام العربية 2002 ثم مؤتمر أنا بوليس، وصولاً لخطاب السيد أوباما من قاعة جامعة القاهرة الشهيرة الذي وجهه إلى العالم الإسلامي الخميس 4 يونيو 2009،
كان خطاباً فضفاضاً عاماً لدغدغة مشاعر الناس، خصوصاً أنه بدهاء أمريكي دعم خطابه بآيات مؤثرة من القرآن الكريم، فقدم نفسه وكأنه واعظ ليبين للناس مواضع الخطأ ليتجنبوه ويرشدهم إلى الصواب ليفعلوه.
وعلى نفس النسق إلى حد كبير كان خطاب أوباما في اندونيسيا في أواخر عام 2010 في أقصى شرق هذا العالم المليء بالنزاعات والصراعات والحروب والمتغيّرات السريعة، وما يجمع بين محتوى الخطابين اللذين غلفا بمعاني مطاطية تدور حول التشدد والعنف والصراع العربي - الإسرائيلي والأسلحة النووية والحرية والديمقراطية.. إلخ.
أوباما الذي يتمتع بكاريزما مؤثّرة ولسان فصيح مكّنه من النجاح، مرتين متتاليتين في الانتخابات الأمريكية تحدث كثيراً عن حل الدولتين ومن قبله أعلن بوش الابن ذلك جهاراً نهاراً وحدد عام 2005 لإعلان جمهورية فلسطين الديمقراطية، ولم يفعل، ثم حدد عام 2008، وكانت وعوده أيضاً سرابا، وغادر البيت الأبيض حاملاً وعوده معه لتبقى حبراً على ورق.
الرجل الذي أكد بجلاء تام بعد انتخابه انه يسعى لتحقيق سلام عادل بما في ذلك إقامة دولة فلسطينية مستقلة تعيش جنبا إلى جنب مع إسرائيل في امن وسلام، نسي أن بعض الدول العربية سارت مع موجة رياح السلام التي هبت على ضفاف أوسلو وفتحت 5 مكاتب لها في تل أبيب ولم تصدق الدولة العبرية خبرا فدشنت مكاتب لها في تلك الدول، هذا بجانب انه توجد سفارتان لدولتين عربيتين في تل أبيب هما مصر والأردن، وبالمثل فانه توجد سفارتان لإسرائيل في كل من أرض الكنانة وعمان.
هو الرجل الذي جاء إلى إسرائيل في الثاني والعشرين من شهر مارس الماضي ليقول (جئت إلى إسرائيل عشية عطلة مقدسة، وهي عطلة الاحتفال بعيد الفصح اليهودي) وفي خطابه المطول الذي مللت من قراءته في كل سطر من سطوره تحدث بقوة عن شعوره نحو الدولة العبرية التي قال عنها (انه يشعر وكأنه في بلاده) حتى أن السيد أوباما ذهب بعيداً في حبه وولاءه لليهود متبنياً الخطاب اليهودي القديم ناهيك انه حاول من خلال خطابه ان يؤكد للإسرائيليين انه يهمه أمرهم وأمنهم أكثر من اهتمامهم هم أنفسهم.
المهم أن سيد البيت الأبيض وهو يحل في بلد اعتبره كبلده لم يزد في تناوله لقضية فلسطين عما قاله سابقا وذهب أدراج الرياح (قيام دولة فلسطينية مستقلة) وهو ما ردده خلال زيارته السريعة للضفة الغربية، لكن ما شغله هو إبراز التعاون الأمريكي - الإسرائيلي، حماية أمن إسرائيل، التعاون الإستراتيجي والمناورات العسكرية المشتركة (القبة الحديدية، الصواريخ) وكلها تعهد أمريكي غير محدود بأمن إسرائيل باعتبارها امتداداً لأمن الولايات المتحدة مفتخراً بأن العلاقة الأمنية بين البلدين في عهده أقوى من أي وقت مضى على الإطلاق واعدا باحتفاظ الدولة العبرية بتفوق عسكري وأنها بدعم أمريكا لن تبرح مكانها، مستعيدا ذاكرة التاريخ سيء السمعة متباهيا باعتراف بلاده بقيام إسرائيل بعد (11) دقيقة فقط من ولادتها على أرض العرب عام 1948.
الرئيس أوباما لم ينسى السلام وهو يتحدث إلى أخيه الحميم المجرم نتنياهو معلناً أن السلام هو الوسيلة الوحيدة لحل الصراع العربي - الإسرائيلي وقيام دولة فلسطينية مستقلة، لكن الرجل نسي على الجانب الآخر أن صديقه المتطرف قد وضع أمام أي اتفاقية للسلام (سداً عالياً منيعاً) وذلك باشتراطه أن يعترف العرب بيهودية إسرائيل كشرط أساسي للموافقة على قيام الدولة الفلسطينية وهو حين وضع هذا الشرط وضعه وهو يعلم حال العرب ويعلم أنهم لا يملكون وسيلة لتحقيق السلام، وليس لهم قوة لفرض شروطهم، وهو يعني باشتراطه بيهودية الدولة أموراً هامة منها رفضه حق عودة الفلسطينيين إلى أراضيهم وهو حق أصيل ضمنه لهم القرار رقم 194 لسنة 1949 الصادر عن مجلس الأمن، وثالثة الأثافي فإن هذا التوجه الجهنَّمي يعني سحب الجنسية من أكثر من مليون فلسطيني، وبهذا يؤكد الجزار نتنياهو حقده الأسود بأن اليهود هم الذين يستحقون أرض العرب، وهو من غلاة اليهود الذين طالما رددوا هذه الأفكار الخبيثة، هؤلاء الغلاة الذين جاءوا من بعيد واحتلوا أرض فلسطين.
أما القدس الشريف الذي دنسه الصهاينة وما حل به من خراب ودمار غير مسبوق في التاريخ الإنساني، منذ أن دبرت إسرائيل حادث إحراقه في 21 أغسطس 1969 ليمثل ذلك التاريخ يوماً أسود في تاريخ القدس والعرب والمسلمين، وليؤكد ذلك الحدث البشع مدى عنصرية اليهود وحقدهم، وستظل تؤكد انه لا أمان لليهود ولا نهاية لأحقادهم وخبثهم ومكائدهم.
هذا ليس فقط فقد استمرت إسرائيل على امتداد العقود الماضية للقضاء على المسجد الشريف وهدمه ليسهل تهويده فحفرت الأنفاق تحته وأساءت إدارته وعملت على طمس معالمه التاريخية والحضارية وشيدت المستوطنات حوله ليزداد عدد اليهود في القدس عاما بعد آخر على حساب السكان الأصليين.
أما المستوطنات اليهودية فحدث ولا حرج فقد التهمت معظم الأراضي الفلسطينية ولم يبقى منها إلا الفتات وهي بازدياد مستمر والسلام يئن بين الحقيقة والخيال، ومما يؤكد ذلك أن الدولة العبرية بدعم صارخ أمريكي تعهدت به الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ تأسيس إسرائيل فقد باركت إدارة بوش الصغير والسيد أوباما مخطط إقامة الجدار العنصري البالغ طوله (730) كيلو مترا وبذا فان الصهاينة نهبوا وصادروا أكثر من 47 في المئة من الأراضي الفلسطينية لصالح بناء ذلك الجدار اللعين، الذي قصدت به ضم الأجزاء الجنوبية من الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وبذا تم فصل القدس عن محيطها العربي وتم عزل حوالي 250 ألف من المقدسيين داخل مدينتهم القدس وعزل أكثر من 90 قرية فلسطينية يسكنها أكثر من (360) ألف فلسطيني بين الجدار العازل والمستوطنات التي يضمن الجدار ضمها إلى إسرائيل.
السيد أوباما لم ينطق بحرف واحد عن القدس الشريف ولا الجدار العازل والمستوطنات ولا عن آلاف السجناء الفلسطينيين القابعين في السجون الإسرائيلية لكنه تحدث عن السلام.. السلام الغائب الذي تأكد من نيات الإدارة الأمريكية والغرب عموما بل والمجتمع الدولي برمته.
وإذا كان وزير الخارجية الأمريكية جون كيري قد زار في السابع من هذا الشهر فلسطين بتوجيه من السيد اوباما محاولا إصلاح ما أفسده الدهر حيث اجتمع بالرئيس الفلسطيني والمجرم نتنياهو كل على حدة لإصلاح (لعبة المفاوضات) التي ولدت ميتة، فإن إسرائيل ترفض حتى ان يرمى حجراً لتحريك مياه السلام الراكدة فهي تشترط أولاً الاعتراف بيهودية الدولة العبرية، وبذا فإن زيارة الرئيس اوباما أولا ثم زيارة وزير خارجيته أخيراً، لن تتجاوز المضامين والنتائج لتلك الزيارات أما الإيهام بأن الوقت قد حان لبدأ مفاوضات سلام جادة يخرج من رحمها دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 عاصمتها القدس الشريف لكن هذا يبقى خيال وحلم بعيد المنال في ضوء المواقف الأمريكية التي هي مع اسرائيل على طول الخط وضد عملية السلام منذ ولدت في أوسلو، وهذه هي الحقيقة، فزيارة السيد كيري أهم أهدافها السير على خطى رئيسه أوباما للتأكيد على التحالف الإستراتيجي والأمني مع إسرائيل.
المهم ان من ينادي بالسلام وينشده منذ وعد بلفور مرورا بقيام إسرائيل حتى اليوم هم العرب، لكنهم وبعد مرور (90) عاماً على وعد بلفور وعلى تأسيس هذا الكيان الخبيث في قلب أرضهم الذي ابتلع معظم الأراضي الفلسطينية وبعض الأراضي العربية وشن عليهم ستة حروب مدمرة، ومنها محرقة غزة الكبرى والحرب على غزة في نوفمبر الماضي التي لن تكون هي الأخيرة، فإن (العرب) لن ينالوا سلاماً ولا عدلاً، وهم لن ينالوه إلا إذا ركبوا صهوة (القوة) فالعالم وإسرائيل لا يصغون إلا إلى الأقوياء.
Eml:dredaljhani@hotmail.com
رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية