خلال سفري للبلدان الأخرى، تتمحور ملاحظاتي لها حول ثلاثة أمور، مستوى المعيشة العامة والتحضر، ومدى الاهتمام بالبيئة والمظهر والنظافة، والثالث هو مقدار مساحة الحرية الشخصية، وقد وجدت أن هذه الأمور تؤثر بعضها ببعض وخصوصا مقدرا الحرية الشخصية، فمعظم البلدان التي يتمتع أهلها بقدر أكبر من الحرية الشخصية، أجد مستوى المعيشة فيها مرتفع ومستوى الاهتمام بالبيئة مرتفع، وعندما أقول مقدار الحرية الشخصية فأعني بذلك مقدار المساحة التي يتركها النظام السياسي وكذلك التكوين الاجتماعي للفرد كي يتصرف بحرية، بحيث يعبر عن رغباته وفكره ويتصرف في حدود قانون يحمي الآخرين من تجاوز بعضهم على بعض.
الفرد تكون علاقته بالمجتمع من خلال القيم التي اكتسبها من النمو في ذلك المجتمع وبالتالي يلتزم في الحدود التي تسمح له تلك القيم بالتصرف في نطاقها، وهذا هو مجال الحرية الشخصية له، فكلما ضاق هذا النطاق، ضاق نطاق الإبداع والمساهمة الفردية، وهذا يجعل المجتمع بصورة عامة أقل تفاعلا وأقل خروجا على الأنماط التي تحددها النظم الاجتماعية، وبالتالي تصبح حركة التغيير في المجتمع بطيئة وهو ما يفسر تأخر بعض البلدان التي يضيق فيها هامش الحرية.
إذ يجوز القول إن الحرية الشخصية كلما اتسع مجالها وبات المجتمع قادراً على تحمل الاختلافات الفردية من منطلق كونها حقوقاً، فإن المجتمع يصبح أكثر قدرة على التغير والتفاعل مع متطلبات التحضر المتسارعة، ويصبح أكثر قدرة على الاهتمام بواقعه والعمل على حماية بيئته. وطالما راودني سؤال محفز للاستقصاء والتدبر وأنا أستوعب ملاحظاتي حول الحرية الشخصية وتأثيرها في البناء الحضاري والاجتماعي، هذا السؤال «لماذا يصعب على بعض المجتمعات منح الحرية الشخصية مساحة أكبر؟»، وكان الجواب الذي توصلت له هو، أن المجتمعات التي تقيد الحرية الشخصية، هي مجتمعات خائفة من التغيير الذي تحدثه الحرية، أي أنها لا تريد أن تتغير، لأن التغيير ربما يؤثر على العلاقات والتركيبة الاجتماعية، وبالتالي سيخلق قدراً من التحول في هيكلة تلك العلاقة، وبناء عليه ستتأثر آليات الكسب والتمايز الاجتماعي وسيختل المنظر التركيبي للاقتصاد العام، هذا الأمر سيفقد كثيراً من القيادات الاجتماعية مكانتها وسيحل محلها قيادات أخرى أتت بمعايير أخرى، لذا نجد مقاومي التغيير هم من اكتسب بحكم النظام الاجتماعي السائد القيادة، منهم السياسيون وطلاب العلم والتجار وشيوخ القبائل، أي بمعنى عام هم من يطلق عليهم اصطلاحاً (أهل الحل والعقد). وحججهم كثيرة تتمحور حول الخوف من فقدان العقيدة والخوف من فقدان الخصوصية والخوف من فقدان الاستقرار والخوف من فقدان الذات.
التغيير أصبح سمة العصر الذي نعيشه ومحرك ذلك التغيير هو الحرية الفردية، والعالم سينقسم حول هذا الأمر لعالمين بعد أن كان ثلاثة، عالم الرابحين وعالم الخاسرين، فلم يعد تعبير العالم الثالث معبرا عن حال كثير من البلدان التي قررت أن تلحق بركب العالم الأول، ولم يعد التعبير معبرا عن البلدان التي انحدرت فيها الحضارة وباتت مجتمعاتها طاردة لكل من أراد حياة كريمة، لذا علينا إدراك هذه الحقيقة طالما لدينا القدرة على التغيير.
mindsbeat@mail.comTwitter @mmabalkhail