Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناWednesday 17/04/2013 Issue 14811 14811 الاربعاء 07 جمادى الآخرة 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

“أحسن الله عزاؤكم وعظم الله أجركم.. متى تفضل عندنا من زمان ما شرفتنا”. “الله يرحمه ويغفر له. بالمناسبة بكم حديتوا العمارة”. هذه أمثلة لعبارات تفوه بها اثنان ممن كانوا حاضرين لمواراة جثمان من لتوه انتقل إلى مثواه الأخير في المقبرة.

وهذان المشهدان بهاتين العبارتين يستدعيان التوقف ملياً لسبر أغوار عدم الإرعواء والاتعاظ من فاجعة الموت، وحتمية مصير بني آدم حتى غدا حضور الكثير لمواساة أهل الفقيد من أجل فقط تأدية واجب اجتماعي، بل يحسن القول مجاملة اجتماعية مغلفة بإحساس حزن كاذب؛ لأنها أضحت مجرد إثبات حضور خالية من تعبير صادق عن مشاعر الحزن، وألم الفراق، ومواساة ذوي الفقيد. وأمام ذلك لا يملك المرء إلاّ القول إن الموت الذي قدره الله على من شاء من مخلوق لم يعد واعظاً للكثيرين منا اليوم. والسؤال المطروح: هل ذلك يعود إلى طغيان جارف للماديات والانشغال بها ومتطلباتها، وربما بسبب قسوة في القلوب؟ وهذا يقود إلى ملمح آخر يطال تفريغ العزاء من شعور بالحزن والمواساة إلى مجالس عامة مصطبغة في معظم أحوالها بعدم الاكتراث بمشاعر ذوي الفقيد، أو بالأحرى بعدم إبداء شعور يتناسب مع حجم الفاجعة.

التفسير الأول لانتزاع خصلة الاتعاظ من مشهد مفارقة الدينا إلى دار القرار ربما يعود إلى الانغماس والهوس بالأمور الدنيوية والمادية فلم يعد هناك مساحة وشعور يمكن أن يعطى لغيرها؛ لأنها أصبحت مالكة لحواسه ومشاعره في جميع لحظات عمره لأنها أصبحت عالمه الوحيد، وشغله الشاغل فلم يعد في قلبه متسع للتفكير والتأمل بغيرها وبغير الركض باتجاهها في كل آنية وحين. وبذا أخطفت المشاغل الدنيوية بعالمها المادي الطاغي ميزان مشاعره، وأحاسيسه فلم يعد يرعوي إلاّ بأحداثها، وتقلباتها، ومطالبها.

والتفسير الآخر لهذا الملمح الاجتماعي الذي غدا بارزاً في مشاهد فواجع قارعة الموت أن ذلك ربما يعود إلى قسوة القلوب - ملكة الجوارح ومظن المشاعر والأحساسيس-المعتلة بعدد من الأعراض التي يأتي على رأسها عدم التأثر والاكتراث بما يحلُ من مآسي تمر عليها مرور الكرام نظراً لسيطرة داء الغفلة الذي يجعل أصحاب تلك القلوب العليلة يبصرون ظواهر الأشياء من دون التوقف ملياً حيال حقائقها ومغزاها.

ولم تتوقف قصة دموع التماسيح الكاذبة والحزن الأجوف على الفقيد عند هذا الحد، وإنما يمكن رصد ملامح أخرى تُظهر عدم الاكتراث بالموت ولواعجه والتي يمكن استنطاقها من مشاهد مراسم مجالس العزاء-إن جاز تسميتها بذلك. الملحظ الأبرز أن تلك المجالس لم تراع في المقام الأول في معظمها حرمة الفقيد الذي لتوه فارق أهله وذويه إلى دار القرار، ولم يعد حدث الموت فاجعاً واعظاً مضفياً الشعور بالرهبة والخوف، وإنما يتوافد معظم القوم من كل حدب وصوب لتسجيل شهادة حضور لا غير، ولكي ينأوا بأنفسهم عن وصمهم بالجفاة، والتقاعس عن تقديم واجب العزاء. ويمكن تسجيل عدد من الملامح والصور والسلوكيات غير السوية التي اصطبغت بها مراسم مجالس العزاء مؤخراً. تحولت مجالس العزاء إلى مناسبة أكل وشرب وموائد عامرة بأصناف من الأكل والشرب. وفي أثنائها يتجاذب المعزون أطراف أحاديث، وربما تعالت أصواتهم بضحكات وتعليقات بعيدة كل البعد عن الأجواء الحزينة التي يمر بها أهل المتوفى وفي مشهد لا يعكس البتة أنهم هنا للتعزية، وتخفيف مصاب أهل الميت، وكسب الثواب.

وللمرأة نصيب في إضفاء صبغة خاصة بها إذ إنها نظرة لها بصفتها مناسبة اجتماعية لها طقوسها فارتدت أفضل ما لديها من حلة، وابتدعت ميكاجاً خاصاً بهذه المناسبة، وجعلت مدار حديثها فيها عن الحفلات وعن آخر خطوط الموضة فحولتها بذلك إلى أعراس بثوب أسود وبذلك جعلت مجالس العزاء مكانا للترفيه، وليس لتقديم المواساة.

ويتم فيها كذلك نصب خيم لمجالس العزاء، واستئجار المقاعد الفاخرة للمعزين. هذا فضلاً عن الاستعانة بأناس متخصصين في الضيافة للجنسين يأتون بكل معداتهم وعددهم منهم من يتولى أمر ضيافة المعزين، وفرق أخرى ترتدي ملابس معينة تقوم بتوزيع الهدايا على المعزين بهدف الدعاء للميت، ويطلب منه كذلك إحضار أواني خاصة بمناسبة العزاء. وكل ذلك يجعل المرء يقف محتاراً هل كل هذه يتم تعبيراً عن فرح برحيل الفقيد، أم حزناً عليه.

كل ذلك يستدعي القول إنًّ فاجعة الموت لم تعد مناسبة تهتز لها الأبدان وترتعد من هولها الفرائص، ولم يعد المرور بالتجربة مدعاة للتوقف ومراجعة ومحاسبة النفس، وإنما هي مناسبة اجتماعية ذات طقوس اجتماعية تؤدى بطابع يقتضيه أداء الواجب فحسب ولذا يحضرها معظم المعزين بشعور لا يتوافق مع مشاعر الحزن والكظم التي يمر بها ذوي المتوفي. والمحزن كذلك على الطرف الآخر أنه يتم إخراجها بصور ومظاهر أقرب ما تكون بالمظاهر الاحتفالية الباهظة التكاليف.

alseghayer@yahoo.com
@alseghayer

دموع تماسيح كاذبة وحزن أجوف على الفقيد
د. خالد محمد الصغِّير

د. خالد محمد الصغِّير

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة