عندما وصلتني من الدوحة دعوة منتدى العلاقات العربية والدولية بالشراكة مع معهد أبحاث البيئة والطاقة للمشاركة في مؤتمر ذروة النفط، ببحث عن النساء في الدولة الريعية كان وقتي مشحونا بالعديد من الأعمال الأكاديمية والمشاريع الكتابية القائمة والمؤجلة معا،
لذا فقد كنت أقرب إلى الاعتذار عن تلبية الدعوة. غير أن حيوية موضوع النفط بالنسبة لي كمواطنة سعودية وبالنسبة لوطني دولة ومجتمعا وللمنطقة الخليجية عامة جعلني أحسم ترددي بأسرع ربما مما توقع الأستاذ عبدالعزيز الحيص، خاصة بعد أن استلمت منه محاور اللقاء الأخرى وبعد أن قرأت قائمة المشاركين معي في أوراق المؤتمر البحثية. ولم يكن ذلك فقط لأن عددا من المشاركين كانوا قادمين من أعرق جامعات العالم ومراكز الأبحاث النفطية بل أيضا لتنوع تخصصاتهم بين تخصصات المعرفة في العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية معا. فقد جمع اللقاء بين خبراء تقنية النفط والخبراء في مجال اجتماعيات النفط كما ذكر د. محمد الأحمري مما يلتقي مع قناعتي وقناعة تيار فكري كامل تبلور معرفيا وأكاديميا اليوم في عدد من الجامعات وأخذ طريقه إلى المجتمعات وهي التداخل المعرفي بين مجالين أو أكثر من مجالات التخصص وهي ما يسمى: “ Interdisciplinary “.
وقد ترجم هذا التداخل والتلاقي في أسماء المتحدثين من كيجل اليكليت السويد الذي تحدث عن الاحتياط النفطي وجوهان غالتونغ الذي تحدث عن ما بعد الطاقة النفطية إلى عبدالعزيز الدخيل الذي تحدث عن الإنسان باعتباره الطاقة البديلة. ومن جوشن هيبلر الذي تحدث عن مشكلة الاستقرار الإقليمي بالخليج في مناخ التغير السلمي والعنفي للربيع العربي، ومحمد الرميحي في ورقته عن تحديات التعليم والبطالة بمنطقة الخليج إلى روبرت هيرش في التطورات المتوقعة في الدول المستوردة للنفط حين الانحدار إلى ذروة النفط.
وهذا التنوع والتداخل في رأيي يعطي ثقلا معرفيا لبعض المواقف المبدأية وخاصة تلك التي يقول بها دعاة الإصلاح في الدول النفطية عامة بأن النفط شأن عام وليس شأنا نخبويا أو اقتصاديا محضا. فكما أن الحرب أمر أخطر من أن يستفرد به الجنرالات أو منتجي وباعة الأسلحة وهواة القوة والتوسع بعيدا عن مطلب السلم الاجتماعي والسلام العالمي، فإن النفط أمر أخطر من يترك في يد الشركات النفطية العابرة للقارات وحدها أو في يد فئة قليلة كل في علياء تخصصها من الجولجيين، مهندسي البترول والسياسة ومختصي الاقتصاد وحدهم بمعزل عن بعضهم البعض وبعيدا عن نبض الشارع أو بمعزل عن المجتمع. وقد قدم الباحثون أوراق عمل تعبر عن محاولة جادة في الكشف عن التنوع والتداخل المعرفي والحياتي الذي تمثله قضية النفط سواء للدولة المصدرة للنفط أو للدولة المستوردة لهذه السلعة. ومع كلفي القديم بقضية النفط كقضية وطنية فقد كانت المشاركة في اللقاء تجربة تعليمية لي وسعت منظوري للنفط من سؤال سياسي إلى سؤال معرفي إن لم يكن وجودي في تأثيراته المرئية واللامرئية، القريبة والمستقبلية على حياة الإنسان في حقبة تاريخية مشتعلة بتحولات عميقة في المدار العالمي وفي المجال الداخلي للعديد من المجتمعات والدول. ومع تعدد الطروحات البحثية التي تنوعت في تناول المجال النفطي من منظور التقنية والصناعة النفطية إلى منظور النفط السياسي، ومن تدخل النفط في تفكيك وبناء المدن إلى مباهج ومخاطر البيئات النفطية، ومن النفط ومعضلة البطالة والنفط ومسؤولية التعليم والتعليم العالي إلى سؤال بدائل النفط الذي شكل سؤالا محوريا في تجمع يحاول فيه خبراء تخصصات مختلفة البحث في تحري اللحظة المفصلية /لحظة ذروة النفط/ تحسبا لحقبة ما بعد النفط.
وهنا سأضطر أن أكتفي بتسجيل بعض النقاط التي أريد القراء مشاركتي فيها. وهي قد لا تكون أبرز ما طرح على بساط البحث ولكنها نقاط على صغر أو بساطة بعضها فهي كالنقاط التي لا غنى عن وضعها فوق أو تحت الحروف لقراءة أدق للكلمات. ومن هذه النقاط التالي:
- مع أنه يقال إن مسألة النفط لم تعد شأنا محليا للمجتمعات المنتجة وتحديدا المصدرة للنفط، فإن أدق القول إنها لم تكن قط شأنا محليا فقد كانت مسألة النفط ولا تزال تعاني من الاغتراب في المجتمعات النفطية.
- تغيب ثقافة النفط عن المجتمع إلا بوصفها ثقافة استهلاك. فكما لم ينتج تاريخ النفط الطويل صناعات نفطية في مناطق تصديره، فإنه لم يكن ليطور ثقافة جديدة تربط بين البترول وقيمة العمل.
- بقاء أدبيات النفط بمجالاتها الطبيعية ومجالات العلوم الاجتماعية في لغات أجنبية يعمق الشعور بالغربة بين المواطن والطاقة التي تعتمدها بلاده مصدرا رئيسيا للدخل. وتسجل أدبيات النفط الاجتماعية غيابا مريبا في الجامعات ومراكز البحث.
- بناء الشرعيات السياسية على مداخيل بيع النفط الخام بكميات تجارية كبيرة يقلل ويضعف فرص تطور النظام السياسي ويشتت مشاريع التنمية ويجعلها عرضة للانتهاك الداخلي بتكاثر الفساد الداخلي في ظل التخلف السياسي وعرضة للتوقف بفعل تذبذب الدخل حسب موازين العرض والطلب على هذه السلعة.
- دول الخليج تحديدا مهددة بأن تنتهي إلى شرب نفطها إذا استمرت في الاستهلاك غير الرشيد لطاقتها النفطية في تحلية المياه وفي الكهرباء وفي تكديس الأسلحة المستوردة وفي استيراد السيارات مع عدم الترشيد في التكاثر السكاني وفي تنويع مصادر الدخل.
- تعاني دول الخليج بتفاوت نسبي من المرض الهولندي وهو ما توصف به حالة التراخي المعيشي والثقافي الذي أصاب الحكومة والشعب الهولندي في النصف الأول من القرن العشرين، حيث كان عليهم دفع ضريبة باهظة حين أفاقوا على نضوب الآبار.
- تتحول المناطق النفطية إلى مناطق غنيمة للنخب المحلية وللمغتربين وغالبا ما تكون مهددة بنفس النهاية الشبحية لمدن مناجم الذهب في الغرب الأمريكي.
- الثورة التي أحدثتها أمريكا بإنتاج النفط من الصخور الزيتية قد يكون لها أثر مبكر يسبق ذروة النفط في الدفع بحالة ركود في سوق النفط التقليدي.
- هناك هدر نفطي تنموي في مجال الاستثمارات الخارجية فشراء على سبيل المثال 15 من شركة مرسيدس أو فورد لا تعود بفائدة على المواطن وإن بدا أن لها مردودا على صندوق البترول السيادي.
- بناء الاستقرار على الاسترضاء النفطي يجعل من عمليات التغير الاجتماعي التي تفرضها اليوم على المجتمع تقنيات ووسائل التواصل الاجتماعي الإلكتروني بقواه الناعمة لا تمر دون التماس الخشن مع النسيج الاجتماعي.
- لم يتفق الخبراء بتخصصاتهم المختلفة على متى عساها تكون اللحظة الحاسمة لذروة النفط ولكني أختم بما قلته هناك بأن سيدنا نوح عليه السلام لم ينتظر إلى اللحظة التي يفور فيها التنور ليبني السفينة حيث لا جبل ولا أبار يعتصم إليه من لم يحطط للطوفان.
- وأخيرا كان فخرا أن تكون المرأة الوحيدة الممثلة في لقاء خبراء النفط امرأة سعودية تتحدث عن التحديات النسوية والسياسية للمناطق البترولية إبان وما بعد النفط.
Fowziyaat@hotmail.comTwitter: F@abukhalid