ولكي نَحْسم الفوضى المستوطنة، لابد من العصف الذهني، فالمواطن والمسؤول يُشَرْعنان للخطأ، ويؤسسان له، وحسم الشَّرْعنة والتأسيس يتطلبان تغيير الذهنية المتمثلة بالنسق الثقافي، ومن ثم لابد من تجنيد الشباب العاطل, ليعمل ليل نهار, بالأجر اليومي، أو بالمكافأة على الإنجاز, على حد:
(كُلُّ من أسر أسيراً فله سلبه) إننا بأمس الحاجة إلى تطهير المجتمع من العمالة السائبة والهاربة، وبأمس الحاجة إلى أطر الناس على النظام، وكشف المتواطئين, والمتلاعبين، والمتحايلين.
لقد خسر العامل على كسب (التأشيرة) وخسر الكفيل على الاستقدام ومُعَوَّلُ الطرفين على الفوضى المستوطنة والرقيب المواطِئ, ودون القضاء على الفئتين خرط القتاد.
إن عشرة ملايين عامل أو أكثر، ومثلهم معهم من المتسللين والهاربين، وأكثر من هذا وذاك من المواطنين المتلاعبين، لا يمكن أن تدار أمورهم من قبل وزارة لا تتوفر فيها الكفاءات البشرية، التي قد لا تُغَطِّي الأعمال الورقية، ولا تحسن تصريف الأعمال المكتبية.
ثم إن مضاعفة الضرائب، ووضع الأنظمة الجائرة التي لا يمكن تنفيذها مدعاة إلى التفلت والتحايل، وكل نظام لا يوجد من يرود له، ويحمي ساقته، يفتح على الأمة باباً من أبواب الشَّر.
ولو أن العامل والعاملة وصلا إلى الكفيل بأقل الأسعار، لما اقترف المعسرون إيواء الهاربات، وتشغيل العمالة السائبة، ولو أن العاملة وصلت إلى الكفيل بأسرع الأوقات, لما تجرأ المحتاجون على الأنظمة. إن الضرائب التي تؤخذ من الكفيل، والإجراءات المعقدة، والمدد الطويلة مدعاة إلى استغلال ثغرات النظام. ثم إن التهاون مع العامل المتلاعب، والاكتفاء بالقبض عليه, وترحيله, دون محاسبة عسيرة, مدعاة إلى الهروب. تلك هي بعض أدوائنا المتجذرة والمتنامية، أنظمة صارمة، لا يقدر المسؤول على تنفيذها ومتابعتها، وضرائب تصاعدية باهظة، يدفعها المعسرون, لتضاف إلى ميزانية (تِرْليِوُّنِيَّة). فماذا تستفيد الدولة من ثلاثين ملياراً تؤخذ من محدودي الدخل, وتكون مبرراً لرفع الأسعار والأجور، وإرباك السوق. يجب أن نفكر, وأن نقدر، وأن نعيد النظر في شأننا كله، فالسيل قد بلغ الزبى، وهم بأمن البلاد، واستقراره من لا يدفع عن نفسه أيَّ غائلة: ولسان حال كل مواطن يردد:
(إذا كُنْتُ مأكولاً فَكُنْ خَيْرَ آكل:.
وإلاَّ فَأدْرِكْني ولمَّا أُمزَّقِ).
وبعد:
فلست مع الشامتين، ولا الشاتمين، ولا مع المفترين، وسيظل موقفي مع أي مسؤول محكوماً بالكلمة الطيبة، والقول السديد. ومهما اختلفت مع أمير أو وزير أو مع من دونهما، فإنني لن أدع لأحد من أولئك جميعاً الظفر بتكذيبي، أو اتهامي بالتحامل، وسوف أجتهد ما وسعني الاجتهاد لمعرفة الفضل لذويه، والإشادة به. وفوق هذا كله, سأظل أرقب الرد الرصين الذي يهديني سواء السبيل, فما أقوله مجرد تساؤل، وعلى المُسْتهدف ألا يلتزم الصمت، وألا يلوذ بالفرار، فالصمت دليل على العجز، أو الاستخفاف بتأوهات المواطن، وليس هو من مرور الكرام باللغو؛ فأنا في النهاية مجرد ناقل للتأوهات، ولحديث المجالس. وعلى كل مسؤول أو مواطن أن يأتي ببرهانه إن كان صادقاً، فَكُلُّنا خطاءون.
لقد ظلت (وزارة العمل) مثار جدل منذ أمد بعيد، وكل وزير تسوقه المقادير إليها يقول متضجراً:
(وَكُنْتُ إِذا أصابتْنِي سهامٌ:.
تَكَسَّرتِ النِّصالُ على النصالِ)
وهي اليوم أشد إثارة، وأكثر تساؤلاً, وأَدْعى لاحتقان المواطن واستيائه. والناس يكادون يجمعون على تعثرها، وعجزها عن مواجهة مسؤولياتها بالآليات والمناهج والإجراءات المناسبة.
ولأمة لا تجتمع على ضلال، وواجب المسؤول أن يصيخ إلى نبض الشارع العام، فهو المرآة المقعرة، والرائد الذي لا يكذب أهله، فإن قدر على تطويق المشكلة، وفك الاشتباك وإلا فليقم قبل أن يُقام عنه.
وإحقاقاً للحق فإن لكافة المسؤولين قيماً ومبادرات، لا يستهان بها، ولا يجوز إنكارها, ولا الاستخفاف بها. ومهما اختلفنا مع أحدهم، فإننا لا نشك في إخلاصهم، وصدقهم، وتفانيهم، وبحثهم الدؤوب عن أنجع الطرق وأفضل الحلول، لتفادي المشاكل الماثلة للعيان، وأملنا ألاَّ يطول زمن التيه.
ولقد قلت، وسأظل عند قولي: إن المساءلة والنقد حق للمُسْتَهْدف بخدمة أي قطاع حكومي. وواجب المسؤول أن يصيخ، وأن يستوعب النقد، وأن يتلقاه بصدر رحب، وثقة، وألا يمنع المَصْدُورِين من الفيضان، إذ (لابد للمصدور من فيضان)، كما يقول أهل العشق، وليسوا وحدهم المساكين، إن المواطن الذي توظف كل الإمكانيات لخدمته، ثم لا يناله منها شيء، أو يناله عكس ما يُؤَمِّله, ويتطلع إليه أسوء حالاً من العاشقين المحرومين، وما أكثر المرافق التي تسيء من حيث تريد الإحسان، وتكون كالطبيب الذي يداوي الناس، وهو عليل.
وبعض الجهات المعنية قد يكون لها عذر ونحن نلوم، ولكنها لا تحسن الاعتذار ولا إدارة الأزمات، ومن ثم سنقول بعض معاناة المواطن. وعلى المسؤول أن يقول بأعلى صوتها: (الآن حَصْحَص الحق) أنا أهملتُ أو أُهْمِلت، وأُلْقِيتُ في اليم مكتوفاً وقيل لي: (إياك إياك أن تبتل بالماء) إذ لابد من الاعتراف بأن الإمكانيات والصلاحيات أقل من الإشكاليات القائمة والمتجذرة، فلا نريد للأفواه أن تظل مُمْتَلِئَةً ماء.
إن المسؤول حين يدعي, أو يكابر, وينفي عجزه وفشله في مواجهة كثير من المشاكل يكون مدعاة لمزيد من النقد، والتجريح، والتقول. وإن كانت في النهاية من الأسنة التي يضطر الطرفان إلى ركوبها.
والذين يحملهم الفضول إلى المواقع والمنتديات والتغريدات يهولهم ما يرون, ويسمعون. وهو قول لا ينطلق من فراغ، ولا تجوز إحالته إلى التحامل، أو الافتراء, أو كلام الجرائد. وواجب أي مسؤول أن يتعقب تلك المواقع، وأن يحولها إلى مرايا ينظر فيها ذاته, فإذا كَذَبَ أْكثُرها، فإنها لن تفقد شيئا من الصدق، وهي رصاصات, إن لم تُصِبْ فإنها تَرْبِك، وتبعث على التساؤل. وقدر المسؤولين وجود مثل هذه الرِّئة التي يتنفس منها كل محق أو مغرض، إننا في زمن (ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّدِ), فلنعد للزَّمن الفضائحي عدَّته.
إنني مُسْتاء من تلك البذاءات، ومتضايق من تلك الافتراءات، والتذمرات, والاستياء، والضيق لا يَحْسِمان شيئا من المواقف، ولا ينهيان شيئا من التساؤلات، والمعاناة، فما يقال تحكمه في النهاية مقولة:
(قد قِيْل ما قيل, إِنْ صِدْقاً، وإن كَذِباً:.
فما اعتذارُك مِنْ قَوْلٍ إذا قِيْلا).