هذا الأسبوع، نشاهد الاهتمام الدَّوْلي الرسمي والإعلامي الكبير، ما هو سرُّ التاتشرية وهذا الزحم الكوني اللافت؟
المرأة التي أهملت لدرجة لم يعد الجيل الحالي يعرف أنّها على قيد الحياة، قبل إعادة إحياء سيرتها عبر فيلم سينمائي مشوق وحزين ومثير، تعود هذا الأسبوع لواجهة الأحداث العالميَّة وبحضور قادة العالم القدامى والجدد في الوقت نفسه والمكان.
هذه التي كانت سيارتها تحذف بالطماطم والبيض الفاسد، وفي كلِّ مرة تحضر مناسبة يصعب عليها الوصول والمغادرة دون مظاهر ومظاهرات صاخبة ومعارضة لسياساتها، وبِشَكلٍّ أكثر سياساتها الاقتصاديَّة!
حزبها تعرض لحرب وإرهاب، وحكومتها خاضت آخر حروب بريطانيا بعد أن أصبحت تغيب عنها الشَّمس.. من حرب فوكلاند مع الأرجنتين- والانتصار، إلى تفجير مكاتب الحزب والحكومة، ثمَّ وباستمرار كم هائل ومخيف من الإضرابات التي شلَّت البلاد وحوّلتها إلى مجمع للقمامة، إلى صراع المعسكرين، وبدايات الحرب الباردة وتفاعلاتها، ثمَّ تحرير الكويت، سلسلة من صراعات وتحدِّيات، وعوائق وأزمات، لكنَّها ظلَّت مصممة على التغيير، على نقل بريطانيا التي هرمت إلى الواجهة، إلى العصر الجديد، عصر السوق، وعصر التخصيص، وعصر الإدارة الفاعلة، وفي مقدمة الحضور السياسي الغربي، في بلد كان فيه خطّ الهاتف الثابت حلمًا!، وبالكاد تصل فيها الخدمات مدفوعة الثمن التي تسيطر عليها الحكومة وتخنقها النقابات الكسولة والتَّقْليدية، وإن حدث أن توفرت فإنّها تأتي متأخرة رديئة، إلى خدمات حرة وسريعة وفعّالة.
لقد حرَّرت تاتشر الاقتصاد من سلطة الدولة، وجعلت الخدمات في عهدة القطاع الخاص وإدارته عبر تنافس لتقديم الأفضل للمستفيد النهائي، وكان الخوف دائمًا من فقد الوظائف وساعات عمل طويلة - كما روّجت النقابات-، يحرك الاضرابات دون توقف، ثمَّ هناك الخوف اللا إرادي- التَّقْليدي من التَّاجر في عصر الدَّوْلة الريعية!
لكن تاتشر التي تنعيها الأمة البريطانية في جِنازة الغد، التي يقال: إنه الأضخم بعد ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا خلال الحرب العالميَّة الثانية، الذي كانت خطاباته إلهامًا لقوات الحلفاء، وصاحب علامة النصر، والحاصل على جائزة نوبل في الأدب!
جِنازة تنافس وداع الملكة إليزبيث الأولى، والأميرة ديانا، فهي من أسس لبريطانيا الحديثة كما نراها اليوم.
هي من وضع حدًا حازمًا للنقابات الكسولة بعوائقها، وإطلاق مشروع التخصيص الاقتصادي لبريطانيا الحديثة، ولتكون قوة دوليَّة مؤثِّرة في صف المقدمة الغربي والعالمي سياسيًّا واقتصاديًّا.. لتؤكد لنا سيرة تاتشر أنّه وعند الحاجة للتغيّر وضرورته، فإنَّ أهم القرارات غير الشَّعبية حينها، غالبًا ما تكون خالدة في ذاكرة المستقبل ومحل تقدير أبدي. ولتكون اللَّحْظَة التي غيَّرت مسار التاريخ لامة.
بينما التَّقْليدية تجعل الكثير من القادة -وحتى الأفراد- مُجرَّد لمحة عابرة بلا أثر، إلى ركن خفي في التاريخ.
بينما من يقفون في موقع بارز ومختلف ويتخذون القرارات الواعية والصارمة نحو الغد هم من يستقرون فيه للأبد، ويحفرون اسم ووجود في ذاكرة الزمن.
هذا بعض مما تعلَّمناه من السيدة تاتشر الحديدية في سيرة تمتدّ بين أصوات المعارضة وصور القمامة في شوارع لندن، إلى تجمع أممي دولي يخلد العقل والقُوَّة والرؤية.