سبق أن ناقشت هنا بشيء من التفصيل مسألة تطبيق الشريعة لدى القائلين إنها (فكرة مثالية) في مقابل من يراها حقيقة واقعية بشهادات تاريخية، من منطلق مبدأ رئيس ومهم ينقض فكرة المثالية من أساسها، وهو أن الله سبحانه وتعالى
لا يختم رسالاته ويُنزل كتابه بشريعة تستحيل في التطبيق، أو لا يُطيقها الناس، وهو خالق الإنسان ومدبر هذا الكون والعالم بما كان وما سيكون وما هو كائن! لهذا فالإشكال ليس في الشريعة، والصعوبة ليست في تطبيقها، إنما في الموقف الفكري السلبي منها عند فريق المعارضين، والتصور الخاطئ للإجراء التطبيقي لها عند فريق المؤيدين، خاصةً في واقعنا المعاصر الذي يشهد طغيان الفلسفة المادية بتياراتها الفكرية من ليبرالية وعلمانية ويسارية على مناحي الحياة وتفاصيلها اليومية، التي تُخضع مسألة الحلال والحرام لشرط تحقيق ثنائية (المنفعة والمتعة) تحت مظلة القانون الوضعي، ما يجعل الإنسان هو المشرع والمقرر والمنفذ لكل تفاصيل حياته.
الموقف الفكري السلبي المشار إليه سلفاً هو اختزال الشريعة بالحدود الجنائية، لدرجة أن من يعارضون تطبيق الشريعة لا يملون من ترديد الأسطوانة المشروخة عن حالات هذا التطبيق الشائعة في العقلية الرافضة وهي (رجم الزاني وقطع يد السارق والقصاص من القاتل)، ومن ثم ربطها بصورة الإسلام التي ستتشوه عالمياً في حال تطبيق هذه الحدود، لأنها ممارسات بشعة بمنظور العالم الليبرالي (المتحضر)، كونها - حسب رؤيتهم - تتعارض مع حقوق الإنسان وتؤلب منظماته الدولية على المجتمعات المسلمة ومؤسساته الدينية وهيئاته القضائية، مع الاستشهاد (غير المنصف) بتجربة النميري في السودان وطالبان في أفغانستان والملالي في إيران، التي أفضت وتفضي - حسب رأيهم - إلى النفور من تطبيق الشريعة والإسلام عموماً. قطعاً هذا غير صحيح فسوء التطبيق لا يعني فساد المبدأ أو فشل النظرية أو خطأ الفكرة، لأن التعامل بهذا المنطق القائم على قياس تطبيق الشريعة بتجارب تمت في ظروف غير سليمة وإجراءات غير صحيحة، يجعلنا نتساءل عن واقع معاش على مستوى العالم يتمثل في فشل القوانين الوضعية بالدول المتقدمة - تحديداً - في منع الجريمة بكل أنواعها من الازدياد وارتفاع معدلاتها حتى ضاقت السجون بساكنيها.
إذاً مسألة تطبيق الشريعة لا تؤخذ بهذا القياس الأعوج لدى المعارضين بموقفهم الفكري السلبي، وهو ما يقودنا إلى التصور الخاطئ للإجراء التطبيقي للشريعة لدى المؤيدين الذين يرغبون بها، معتقدين أنها تتم بكل حال ووفق أي ظرف من منطق أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وهذا لا جدال فيه أو خلاف عليه إلا لدى من يرى الإسلام ديناً فقط وليس منهاج حياة. ولكن تطبيق الشريعة وسيادتها على تفاصيل الحياة يكون مرتبطاً بتحقيق المقومات الرئيسة لحياة الإنسان الكريمة كالحرية والمساواة والعدالة اجتماعية، التي تتشكل على أرض الوقع بحقوق معتبرة للإنسان وواجبات مقررة عليه، بمعنى أن الشريعة تحكم العلاقة بين إعطاء الحقوق وتنفيذ الواجبات وما يتعلق بها من أحكام وحدود. لهذا فشل النميري كما فشلت طالبان لأنهم طالبوا الإنسان البسيط بما عليه من واجبات وطبقوا عليه حدودا وأحكاما وحقوقه لم تكتمل وفي ظروف معيشية صعبة، وبهذا أخلوا بمتطلبات الحياة الكريمة للمواطن من قبلهم وهم الدولة الراعية. ولو تمعنوا في سيرة الفاروق -رضي الله عنه- لاكتشفوا عبقريته الفذة في تطبيق الشريعة سواء في رخاء المسلمين أو شدة بلائهم.
moh.alkanaan555@gmail.comتويتر @moh_alkanaan