تلقيت دعوة من مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني لحضور اللقاء السادس حول “الحراك الثقافي في مواقع التواصل الاجتماعي”. واستغربت في البداية هذه الدعوة غير المتوقعة لأنني اعتقدت للوهلة الأولى أني لست من الضيوف المفضلين لمثل
هذه اللقاءات لما يراه بعض الزملاء مني من الصراحة المفرطة والبعد عن المجاملة، وكذلك لأسباب أخرى شعرت بها ولم تجرؤ صراحتي على التصريح بها. سررت بالدعوة التي أتت من شخص في غاية اللطف يعمل مع المركز ووافقت على المشاركة، إلا أنني ترددت فيما بعد بسبب كثرة المشاغل ولعدم تأكدي بمجريات مثل هذه اللقاءات، وللأمانة كانت لدي، مثل كثير من المواطنين، فكرة مسبقة عن هذه اللقاءات على أنها لقاءات مجاملات، ونشاط لا يشعر الكثير بأهمية وجوده ولن يفقدوا غيابه. ولكني قررت المشاركة كالتزام أخلاقي للزميل الذي كلف نفسه مشكورا مؤونة الاتصال بي، وبصراحة حمدت الله على المشاركة.
حضرت مقر اللقاء وكان المنظمون، والحق يقال، في منتهى اللطف وحسن الاستقبال، وغالبيتهم من الشباب السعودي الذي يعملون في مجال العلاقات العامة، كما بدا لي، وكان من الواضح أن هناك جهدًا تنظيميًا ضخمًا بذل قبل حضور الضيوف للإعداد لهذا اللقاء، وكان هناك انتباه واضح لأدق التفاصيل، كما أن المضيفين كانوا في غاية الكرم، وأرى من الذوق والاحترام أن يشكرهم الجميع على ذلك.
بدأت جلسات اللقاء في قاعتين أحدهما للنساء والأخرى للرجال يربطهما أجهزة نظام صوتي على مستوى عال من التقنية، وشاشات عرض كبيرة حديثة كان من الواضح أن المركز هو من تولى إحضارها وتركيبها. وفوجئت في الجلسة الأولى بوجود مجموعة مختلفة، وغير متجانسة من المشاركين، شخصيات مختلفة من حيث العمر، والمراكز، وكذلك الرؤى والأفكار، ومنهم كثيرون ممن لهم آراء خاصة متعارضة ومنهم من عرفت بعض آرائه بأنها معارضة لبعض التوجهات العامة لسياسات المملكة، فخمنت لماذا دعيت للقاء، فوجودي هو من ضمن الأصوات المختلفة في اللقاء بصرف النظر عن آرائي أو صراحتي. وقد كنت مترقباً لما سيحدث وكيف ستدار اللقاءات، ولا أخفي القارئ الكريم سراً، كنت من بعض المواطنين الذين لا يعيرون اجتماعات الحوار الوطني اهتماما، ولا يرون منها فائدة مادية أو انعكاس مباشر على حياة المواطن، ولكن هذه الرؤية تبدلت بعد المشاركة.
بعد كلمة ترحيب قصيرة من أمين اللقاء شدد فيها على أهمية الحوار الوطني، وأهمية تعلم الحوار وتفهم الآخر، وضرورة تقبل الاختلاف، بدأ اللقاء الفعلي، وفوجئت أولا بأسلوب إدارة اللقاء التلقائية، حيث أن اللقاء كان يدير نفسه بنفسه، وذلك بأن يضغط المتكلم قاعدة الميكرفون أمامه ليحجز دوره في الكلام دون تدخل أحد، وكان لكل عضو حق التداخل لثلاث دقائق فقط بعدها ينبهه الجهاز بالخط الأحمر بانتهاء مداخلته تلقائيا أيضا، وحينها تتم مقاطعته، واتضح من خلال ذلك المخضرمون في حضور اللقاءات من ضغطهم المبكر على الأجهزة لحجز الدور مبكرا للمداخلة، لأن من لم يعرف هذه اللعبة ويضغط الزر متأخرا سيجد نفسه في ذيل قائمة طويلة مملة قد ينسى ما يريد أن يقوله قبل أن يصله الدور.
كان الحضور، كما أسلفت، مختلفين ومتفاوتين في العمر، والجنس، والمستوى العلمي، يتواصولون في هذا الاجتماع تماما مثل تواصلهم في مواقع التواصل الإليكتروني بلا تفرقة أو تمييز، وكان الجميع يتكلم في حرية تامة دون مقاطعة، أو تعطيل من الهيئة المنظمة، وتطرق البعض لقضايا لا يمكن أن تسمعها عادة في لقاء تنظمه مؤسسة ترعاها الدولة. ولو حضرت وسائل إعلام خارجية، وترجمت لهم وقائع الجلسات لربما لن يصدقوا أن مثل هذه اللقاءات الصريحة تتم في المملكة. البعض انتقد المسئولين صراحة، والبعض الآخر طرح قضية محاكمة بعض المعتقلين، وغيرهم تكلم منتقداً ما أعتقده تعثراً في تطبيق الإصلاحات التي نادى بها خادم الحرمين الشريفين. كان الجو مفعما بالمصارحة، وكانت الاختلافات في الرؤى والآراء واضحة، ولكن لغة التهذيب تجعلها أقل حدة وتلطف أجواء الاختلاف.
اللطيف في الأمر أنه في فترات من الجلسات كان يعرض وسم مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني في التويتر على شاشة ضخمة ليراها الجميع، ويشاهد المشاركون ما يكتب عنهم وعن الحوار الوطني مباشرة، بما في ذلك تغريدات بعض الحضور بأسماء مستعارة، وخلق ذلك جوا سرياليا فعلاً، فأنت تشاهد ما يكتب عن اللقاء داخل اللقاء مباشرة، وتشاهد أيضا ما يغرد به البعض من داخل القاعة، وكان النصيب الأكبر من الرتويت لمداخلة عضو إعلامي بأن آراء الطلاب والشباب متقدمة على آراء الأكاديمين، ويبدو أن الشباب طربوا لهذه التغريدة ولم يكذبوا خبرا فحلقوا بها عاليا على أثير الريتويت في التويتر. ولم أكن أعرف أن الجلسات تنقل مباشرة على وسائل الإعلام إلا عندما اعترض أحد ضيوف اللقاء في مداخلته متسائلاً: سمعنا أنكم أخرتم بث اللقاء لدقائق، وحصل جدلا خفيفا عند نفي أحد منظمي اللقاء لذلك موضحا الأسباب.
وكما يقال ليس من رأى كمن سمع، فالسماع عن لقاءات الحوار الوطني، أو حتى تناقلها عبر وسائل الإعلام لا يعكس حقيقتها مطلقا. والناس قد لا تكون ملومة طبعا في انتقادها لأنها لا تستطيع الحضور والمشاركة مباشرة، وهي كذلك تتطلع لنتائج ملموسة على الواقع لنتائج الحوارات التي دارت في غالبها حول مواضيع حساسة للمجتمع السعودي، ولكن من يحضر جلسات الحوار يرى شرائح الشعب السعودي مختلفة تتحاور حول هذه المواضيع، بحيث أن التوصيات، لو كانت هناك توصيات، لا بد وأن تغلب عليها طابع العمومية لتتسع لعموم وجهات النظر، ولكن الكاتب متأكد من أنه لو شاهد مسئول أحد جلسات الحوار لاستطاع رصد اتجاهات الرأي العام داخل المجتمع السعودي، ولو رصدها دارسون لكانت مادة دراسية ثرية لتشخيص واقعنا الاجتماعي.
وما دمنا بصدد الرصد، فقد كانت هناك لجنة تسمى “لجنة الرصد” تسجل أهم ما يدور في الجلسات، وتقدمه مكتوبا للمشاركين. وقد تم رصد، على سبيل المثال، الجلسة الثانية لليوم الأول في 64 ملاحظة، قدمت مطبوعة للمشاركين فيما بعد. وسيدور المقال القادم بإذن الله حول محضر رصد الجلستين، لعله يكون في ذلك مساهمة ولو بسيطة في مشاركة القارئ الكريم ببعض الآراء المهمة التي تم تداولها في اللقاء.
وقد كان في اللقاء، كما في كل اللقاءات والندوات، لقاءات وحوارات جانبية مع بعض ممن سعد الكاتب بلقائهم، وكانت هذه الحوارات الجانبية على قدر كبير من الصراحة والأهمية، فأجواء اللقاء كانت تساعد على الصراحة والشفافية. وكان من قبيل ذلك لقاءات مع بعض أعضاء الهيئة المنظمة، وضيوف لهم مراكز مهمة في توجيه الرأي العام في المجتمع. وقد كرر المنظمون لأكثر من مرة أنهم منفتحون على جميع الاقتراحات التي تسهم في دفع الحوار الوطني للأمام وتسهم في استفادة عموم المواطنين منه. وقد يكون من المفيد النظر في كيفية توسيع دائرة الحوار لتشمل عددا أكبر من أفراد الشعب، كما نتمنى أن تثمن الجهات الرسمية ذاتها هذا الجهد الرصدي الهائل لآراء المواطنين لأن ذلك سيقلص من الفجوة الموجودة بين المسئولين والمواطنين. وربما يجدر بالمنظمين أن يفكروا في دعوة المسئول الحكومي الأول عن الموضوع المطروح في اللقاء للحضور بحيث يستمع مباشرة لآراء المواطنين حول أدائه، وتقتصر مشاركته مثل الآخرين بمداخلة من ثلاث دقائق فقط وعليه أيضا أن يكون سريعا لماحا للحصول عليها.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود