لا زالت إيران تتحدَّث عن المقاومة، بل إن نائب وزير الخارجيَّة السيد حسين أمير أعلن في القاهرة استمرار مساندة إيران لخط المقاومة ضد إسرائيل التي يَرَى أنّها في أضعف حالاتها اليوم، لكن ما لم يلحظه نائب الخارجيَّة الإيراني هو أن المقاومة
دخلت إستراتيجيَّة جديدة تتناسب والتغيّر في المنطقة.
فحماس اليوم أصبحت في خصومة مع النظام السوري وصديقة لمصر، والعلاقات بين تركيا وإسرائيل تكاد تعود إلى أقوى مما كانت، مما جعل الزعيم التركي أردوغان يعلن بوضوح لأوَّل مرَّة بأن تدخل إيران في الشأن السوري غير مقبول، وهذا يعني أن المقاومة وأن بقيت تصر على موقفها إلا أنّها اختارت نهجًا يتناسب والتغيّر الحاصل في المنطقة، كما أن الكيان الصهيوني قد ربح -على الأقل- حياد تركيا أخيرًا في الوقت الذي خسرته إيران، وهذا يعني أيضًا أن لا حلفاء لإيران اليوم في المنطقة إلا حزب المالكي في العراق والأسد في سوريا ونصرالله في لبنان، وفي حين يشتد الطوق المستاء من سياسات إيران في المنطقة فإنَّ بعض هذا الطوق راغب في شن هجوم عدواني عليها ويتحين الفرص، وها قد بدأت تظهر ملامحها بوضوح مبتدئة في سحب الشَّعبية الداعمة لحزب الله في المحيط العربي وإشغال جيش سوريا في مد عمر بشار أيَّامًا أو أشهرًا إضافية بينما يحتشد أحرار العراق في رفض وطني لحكم صاحب إيران هناك.
وفيما يبدو فإنَّ إيران تستعد لمواجهة مصيرها بالصراخ بعد أن تَمَّ تقليم مخالبها وحشرها في أضيق نقطة ممكنة، من هنا تحاول بِكلِّ جهد ممكن البحث عن أصدقاء محتملين في دول الربيع العربي، لكن هذه الدول تدخل النادي السياسي بفكر جديد ومنطق مختلف تمامًا عمَّا سبق، نعم تستقبل الوفود الإيرانية ولا تمانع في البحث عن فرص للتعاون لكن ليس بالفهم الذي تعتقده أو تريده إيران، فقد كانت دول الخليج العربي راغبة أيضًا في البحث عن فرص للتعاون واستقبلت الوفود الإيرانية لهذا الغرض ولم تجد إلا التعالي والتذاكي المكشوف، مما يجعلها في حلِّ مما قد تَتَعرَّض له إيران في نهاية المشوار، وهكذا أيضًا سيكون موقف دول الربيع العربي، وليس خافيًّا أن هذه الدول تعيش في مراحل التحوّل من النظم الديكتاتورية إلى الديمقراطية، وبمراحل كهذه لا تستطيع الدول حتَّى لو أرادت أن تفعل أكثر من الحياد بانشغالها بما فيه، وصحيح أن حرب العراق وأفغانستان أنهكت الولايات المتحدة الأمريكيَّة اقتصاديًّا وعسكريًّا، لكنَّها أعطت قوة إضافية للكيان الصهيوني الذي أزيح عنه حكم طالبان وحلفائهم من تنظيم القاعدة في أفغانستان، ثمَّ دمر العراق كليًّا وأعيد إلى ما قبل نشأة الدول الحديثة وها هي سوريا تتوارى عن المشهد لتعري حزب نصر الله في لبنان، ثمَّ تأتي عودة العلاقات مع تركيا لتعطي الكيان الصهيوني حيادًا تركيًا في أيِّ مواجهة يضاف لحياد دول الربيع العربي لعدم الاستعداد للدخول في الصراعات الخارجيَّة في مراحلها الانتقالية وبالطبع حياد دول الخليج العربي التي نصحت وحاولت بِكلِّ جهد دون جدوى، إذن على ماذا تراهن طهران؟
تراهن طهران -كما أسلفت- على الصراخ وخيوط واهية من الأمل في دعم روسي وصيني، فأما الصراخ فنعرف أنّه مشاغبات وعبث قد يزعج ولكنَّه سيؤذي الحنجرة أكثر من طبلة الأذن، وأما الدَّعم الروسي والصيني فإنّه إن تجاوز الشجب والاستنكار فلن يزيد إيران إلا خسائر في الأرواح والمعدات وقد يسهل خلخلة الخريطة الإيرانية، وإذا كان من العجب القول: إننا أمام مغامرة غير منطقية فلن ننسى مغامرات كنَّا نستبعد حدوثها لكنَّها حصلت بالفعل وها قد غاب بعض أبطالها وبقي آخرون يترنحون اليوم في موقف لا يحسدون عليه.
ما قد لا تدركه إيران أو ربَّما تتجاهله هو أن شكل الصراع العربي مع الكيان الصهيوني بدأ يتغيَّر نحو إستراتيجيَّة جديدة، فالمبادرة العربيَّة دخلت حيز المراجعة والتأمَّل في جدْوَى استمرارها، والمصالحة الفلسطينيَّة أصبحت جاهزة بعد أن تغيَّرت صور التحالفات، والنظم العربيَّة التي كان ينظر لها بأنّها قد اختارت الخروج من الصراع سقطت اليوم واستبدَّلت بنظم تحكم باسم الشعب، وإذا كان المشهد الإيراني يبدو للمتأمّل صعبًا إلا أنَّه ليس مأساويًا بالكامل، فالنظم الثيوقراطية كالنظام الإيراني يستطيع - إذا رغب - أن يستخدم ولاية الفقيه في إسقاط سياسة المغامرات التي يجنح لها الدكتور أحمدي نجاد، ويضع بديلاً يمتص المناخ الملتهب ويعيد ترتيب وتنظيم علاقاته مع دول المنطقة، والدخول معها في رسم صورة المستقبل، لكن عليه إن أراد بشعبه خيرًا أن يفعلها الآن وقبل فوات الأوان.
Hassan-Alyemni@hotmail.comTwitter: @HassanAlyemni