من حق الدولة والمجتمع أن يعلن كل منهما (الحرب) على الدخان والمدخنين، طمعاً في استئصال الأول، ورأفة ورحمة بالآخرين. وتقود أمريكا وبعض الدول الأوروبية الحرب على هذا (العدو) منذ سنين، فلا تؤويه في إداراتها أو مجالسها أو مطاعمها أو نواديها أو مراتع اللهو فيها وكل ما يمكن قياسه على هذا أو ذاك! بل وتفرض غرامات وعقوبات على المخالفين ويبقى الشارع وحده (الملاذ الأخير) لتنفيس (كربة) المدخنين، ولذا، تراهم، ذكوراً وإناثاً، ينأون عن الأبصار معتصمين، بالزوايا الضيقة أو الغرف شبه المظلمة يمارسون فيها غوايتهم المدمرة، قبل أن يعودوا إلى (عالم البشر السوي).
ترى.. لِمَ كل هذا الغضب الإنساني الأممي على التدخين؟.. هاكم بعض الأسباب:
(1) تقول منظمة الصحة العالمية في أحد تقاريرها أن الدخان يقتل في كل عام خمسة ملايين آدمي.. وسواءً سلمنا بهذا الرقم المذهل أم تحفظنا عليه فالأذى المقصود بيّن لكل ذي بصيرة.
(2) وتقول المنظمة: في كل عام يموت ستمائة ألف إنسان غير مدخن أكثرهم من الأطفال بنسبة 40% بسبب التدخين غير المباشر.
(3) ويقول العارفون بهذه المحنة إن دخان السيجارة يحوي أربعة آلاف مادة كيميائية، منها مادة تشكل أضراراً على الإنسان، من بينها مادة تسبب السرطان.
(4) وتقول دراسة جديدة إن خطر (النرجيلة) لا يقل خطراً عن لفافة السيجارة، فهي ضارة جداً، وخطورتها تكمن في أن المدخن يستنشق كمية كبيرة من الدخان دون أن يشعر.
(5) وتبين أحدث الدراسات أن حظر التدخين يسهم بشكل كبير في تحسين صحة المجتمع، فالمدن التي تطبق حظره بنجاح يتمتع أفرادها بصحة نفسية وجسدية أفضل من غيرهم. ويذهب بعض المتحمسين ضد التدخين إلى القول بأن أفضل طريقة لتجنب أضراره الاقتصادية والجسدية، أن يتم منعه بل وتحريمه.
وأقول تعليقاً على ما سبق: هيهات أن يقوى الناس على قطع دابر هذه الآفة ومنعها منعاً رادعاً، فالقوي منهم من يتفوق على علة نفسه مقاومة للتدخين بالإرادة القوية والعزم المتين.
وأتذكر في هذا السياق ما رواه لي صديق قبل أكثر من عقدين من الزمن، كان وقتئذ (يعاني) من فتنة التدخين، وعاد يوماً إلى منزله لتستقبله طفلته الصغيرة متسائلة في براءة وحماس: لماذا تريد ان (تقتل نفسك) يا أبي؟! وشَدَه صاحبَنا السؤالُ حدّ الذهَول، فسألها بدوره: من قال لك ذلك ياحبيبتي؟ فردت في الحال قائلة: سمعت ذلك في التلفاز ضحى اليوم.. فأعاد الكرة سائلاً: وما هي علة الموت الذي تخشين عليّ منه يا طفلتي الغالية؟
- فأجابت قائلة: يقول المتحدث إن المدخن يعرّض نفسه للهلاك المبين، إن لم يردع نفسه عنه في الحال.
- ثم صمتت، وهي تحدق في عيني والدها لتعرف ردة الفعل لما قالت.
- أما هو فقد انعقد لسانه، ولم يعلق على ما أسمعته إياه ابنته، ليس لأنه لم يكن مدركاً لأخطار التدخين، ولكن لشفافية إحساس ابنته و(مهارتها) في (تطبيق) ما سمعته على حالة والدها خوفاً عليه وحبّاً له.
- ثم سألتُه بدوري، بعد أن أكمل روايته:
- ماذا فعلت بعدئذ ؟!
- فقال، قررت سراً أن امتنع منذ تلك اللحظة امتناعاً قاطعاً مانعاً عن التدخين.. وانصرف ذهني بعد ذلك إلى محاولة حصر آفاته وأضراره، فوجدتها كثيرة جداً ومخيفة جداً.. بدءاً بحرق الثوب، مروراً بتلوث الرئة والأسنان، وانتهاءً بالسرطان والعياذ بالله، ثم دوّنت تلك (العلل) واحدة تلو الأخرى، حتى بلغت إحدى وأربعين علة.. ووجدت في هذا (التدوين) دافعاً أقوى للإصرار على هجر التدخين.. وهكذا كان الأمر حتى الآن.. والحمد لله.
وبعد..
لن يْحتاج المدخن منا اليوم إلى (ناقوس) خطر يوقظ حسّه وإحساسه لهجر التدخين، وإنقاذ نفسه.. قبل فوات الأوان، فالحجة ضده واضحة لا يعوزها برهان ولا دليل، كما جاء في مقدمة هذا الحديث.