Al-jazirah daily newspaper

ارسل ملاحظاتك حول موقعناSunday 14/04/2013 Issue 14808 14808 الأحد 04 جمادى الآخرة 1434 العدد

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

الرأي

داعبت المدينة الفاضلة خيال أفلاطون؛ فسطّر أحلاماً وردية في وصف تلك المدينة، وعلى منواله حلم ابن طرخان الفارابي بمدينة فاضلة، وحتى الآن ما زال الناس في كل مكان يحلمون بمدينة فاضلة، بل يحلمون بوطن أينما كانت وجهتهم فيه، تتجلى لهم الفضائل شاخصة ماثلة ملء السمع والبصر، ولكن ثبت من واقع الخبرة البشرية أن هذا الحلم الجميل يستحيل تحقيقه ورؤيته على أرض الواقع، كون هذه الدرجة من الكمال تخضع لمعايير يستحيل توصيفها، فضلاً عن أن تحظى بإجماع أو توافق بين الناس على قبولها أو الرضا بها، كما أن مواصفات الكمال المنشودة متعددة، ويتعذر الإحاطة بها، سواء من حيث النوع أو الكم.

من شواهد صحة هذه المسلّمة ما يخبره الإنسان في هذا العصر ويعايشه، وأخص الإنسان في الدول التي تصنف بأنها متقدمة، والتي بلغت فيها درجات الرفاهية والكمال حدًّا يفوق الخيال؛ حيث لم تستقر أحوال الناس هناك، ولم تهنأ نفوسهم، بل ما زال الإنسان هناك في كثير من الأحيان منكسراً حسيراً، يلهث وراء متع صار بعضها يُنسي لذة بعض؛ وبالتالي لا يمكن أن يرضى الإنسان أو يقنع أبداً مهما كانت صور الكمال المحيطة به مبهجة، ودرجة الرفاهية التي يعيشها شاملة كل جوانب الحياة؛ لأن صور الإمتاع خاصة الحسي منها تزول بزوال الموقف، أو أنها تفقد بريقها بسبب مداومة تناولها والتعايش معها، ويبقى الأهم والأدوم من وجود المدينة الفاضلة، أو الدولة التي يتحقق فيها كل ما يطمح إليه، يبقى الشعور المعنوي بالانتماء للوطن، بغض النظر عن إمكاناته، فما يمثله الوطن أرضاً وثقافة وبنية مجتمعية وحضارية يعلو على كل صور الإمتاع والجمال والرفاهية.

من هنا يتبين أن صور الرفاهية الحسية على اختلاف أنواعها تتضاءل عند العقلاء من حيث الأولوية والمكانة والقيمة أمام الوطن؛ لأن الوطن بمنزلة الحضن الدافئ الذي تأتلف حوله القلوب، وتشتاق إليه النفوس، أياً كانت إمكاناته، فكل إنسان لا يمكن أن يستمتع بصور الرفاهية ويستشعر قيمتها ما لم تكن فوق ثرى وطنه، الوطن هو الأهم، وهو الأجدر بالولاء والانتماء، ولاسيما إذا عزز هذا وأكده مفاهيم ومعتقدات تتسم بالأصالة والتوافق مع الفطرة البشرية التي لا يمكن أن تتقبل أو ترضى بثنائية الانتماء، أي أن يكون الإنسان في وطن بينما ولاؤه وانتماؤه متعلقاً بوطن آخر، هذه الثنائية لا تحصل إلا عند من يعاني حالة الفصام، وهو مرض عقلي مزمن، يتحول فيه الإنسان من شخصية اعتبارية لها سماتها إلى أخرى لا تمت للأولى بأي صلة، هكذا هي حالة الخائن، فهو ذو شخصية مزدوجة، تبدو بسمات في ظرف معين، ومكان محدد، وفي زمن آخر ومكان آخر تتحول تلك الشخصية إلى شخصية أخرى، لها سماتها المختلفة تماماً عن الحالة الأولى. بطبيعة الحال، الفصام حلة قهرية، بينما تحول الخائن من شخصية إلى أخرى يتم بطواعية منه واختيار؛ لهذا لا يُعفى الخائن من مسؤولية ما يرتكبه من أفعال الخيانة التي حتماً يقصد بها الإساءة وإلحاق الضرر.

لذا لا أتصور أن إنساناً مهما كان تكوينه العقلي يمكن أن ينسلخ من محيطه المجتمعي، ومن إطار انتمائه الوطني، إلى محيط مجتمعي غريب عنه لغة وثقافة، إلى إطار لا تربطه به أي رابطة انتماء لا ماضياً ولا حاضراً، كل ما في الأمر شهوة خيانة أوقدتها عاطفة عمياء واهية، بل أوهى من بيت العنكبوت؛ لأن هذه العاطفة لو كانت راشدة عاقلة سوية لتبين لها دون عناء وبمنتهى البساطة أن المستند العقدي لها تافه، بل لا يمكن أن يتقبله أدنى الناس فطنة وقدرة عقلية على إدراك مضامين الحقائق وفهم المعطيات، فالمعتقد الديني الذي أثار عاطفة الخائن المنسلخ من وطنه إلى إطار وطن خارجي كله خرافات مصنوعة وبأسلوب في منتهى السذاجة، بل إنها تتصادم مع الفطرة البشرية الطاهرة من ملوثات النحت الثقافي الذي بلغ عند الصفوية ومن تبعها حدًّا لا يمكن تصديقه ولو بأبسط دلالات المعرفة في الإدراك والفهم.

abalmoaili@gmail

أما بعد
شهوة الخيانة
د. عبد الله المعيلي

د. عبد الله المعيلي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

حفظ

للاتصال بناالأرشيفالإشتراكاتالإعلاناتمؤسسة الجزيرة