لا يخلو أي مجلس من أحاديث متنوعة ولا يخلو أي عمل وأي اجتماع من آراء متباينة ومختلفة قد يكون الصواب مشتركاً فيما بين الآراء وإن كانت الوجهات والطرق مختلفة وقد يكون كل طرف معه قدر من الصواب بحيث يكون لكل رأي نسبة من الصواب، ومع تباين الآراء هناك تباين في قبول وجهات النظر الأخرى، فهناك من لا يرى سوى رأيه الأوحد سواء أكان على صواب كامل أم خطأ كامل أم وجهة نظر تحمل الصواب بنسبة معينة وهناك من يجحف فلا ينظر للرأي بل ينظر لمصدر الرأي فلا يقبل وإن كان صواباً وإن كان حقاً.
وفي أمور الدين والدنيا يتطلب الأمر منا الحق والعدل والإنصاف وأن نحب لغيرنا ما نحب لأنفسنا وإذا كانت أمور الدنيا فيها من القناعات ووجهات النظر فتبقى أمور خاصة لكل وجهة نظره التي يحب أن تقدر وأن تعتبر ما لم تكن أمور الدنيا التي يجري البحث والنقاش فيها أمراً عاماً فليس لأحد أن يلزم غيره بوجهة نظره أو أن يلزم الناس به وواجب أن تحترم خصوصيات الناس ورغباتهم، في حين أن أمور الدين ليست أهواءً وأمزجة ورغبات، بل هي تعاليم وتوجيهات من الحكيم العليم يلزم المرء اتباعها وفقاً لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ووفق فهم السلف الصالح من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يومنا هذا، وما فيه من نصوص صريحة من الكتاب والسنة لا مجال فيه للاجتهاد.
وهناك من يسارع في الفتوى بغير علم وقد يتيسر له البحث والسؤال وكلنا نعلم حديث الرجل الذي كان في سفر فأجنب في ليلة باردة وكانت برأسه شجة فقال لرفقائه أنا أصابتني جنابة وبرأسي شجة فقالوا له: اغتسل فاغتسل فمات فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قتلوه قتلهم الله هلا سألوا إذ جهلوا)، وكم من الناس من قتل جماعات من الناس بفتاوى وآراء مخالفة لهدي الإسلام وشرعه ليس بالاجتهاد والفقه بل بالتجرؤ على الفتاوى دون علم وإذا ما حدّث برأيه المخالف حدثك وكأنه شيخ الإسلام وإذا قيل له ارجع لما قال العلماء أو اسألهم قال المقولة العجيبة «هم رجال ونحن رجال»!!.
وإذا كانت القنوات الفضائية والشبكات العنكبوتية ووسائل التواصل الاجتماعي قد أظهرت عوار بعض هؤلاء المتسرعين في آرائهم فإن ما تسمعه في بعض المجالس يشيب له الرأس، وما تقرأ في بعض الرسائل يجلب الهمّ والغم والمرض فقد تجرأ بعضهم على تكفير بعض أئمة السلف وتبديعهم وتفسيقهم والنيل منهم والتطاول عليهم بكلام لا يقال لمثلهم في الفضل والعلم، وإذا ما بحثت مع هؤلاء تجده خاوياً فارغاً وقد امتلأ كبراً وجهلاً وعزةً بنفسه فانتفخ وأصبح بحال يرى أنه فيها شيخ الإسلام وأن الأئمة الأعلام من السابقين كانوا ضالين مبتدعين، وإذا كان الأئمة الأعلام قد نالهم من سهام الإعلام فلا عجب أن نراهم يتطاولون على بعض المشايخ في هذا العصر مع من يخالفونهم الرأي وليت بعض هؤلاء السفهاء استمعوا لمشايخنا وكبار علمائنا في احترامهم لجهود السابقين من العلماء.. ولعلي أسوق مثالاً لفضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين -رحمه الله تعالى- حينما مر ذكر بعض العلماء، فقال: لا نشك أن هذا الرجل ناصح وأن له قدم صدق في الإسلام ويدل على ذلك قبول مؤلفاته حتى أنك لا تجد مسجداً من مساجد المسلمين إلا ويقرأ فيه كتابه وهذا يدل على القبول، ولا شك أنه ناصح ولكنه -رحمه الله- أخطأ في تأويل آيات الصفات حيث سلك فيها مسلك المؤولة.
فهل نقول: إن الرجل مبتدع؟! نقول: قوله بدعة ولكن هو غير مبتدع لأنه في الحقيقة متأول، والمتأول إذا أخطأ مع اجتهاده فله أجر فكيف نصنفه بأنه مبتدع وننفر الناس منه. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
ولقد نصح كثير من مشايخنا وعلمائنا طلاب العلم وخاصة من المبتدئين بالتركيز على التحصيل وطلب العلم وترك الانشغال بالتبديع والتفسيق وأن عليهم الاشتغال بطلب العلم وأن هذا المسلك يجلب العداوة والبغضاء ويصرف عن العلم ويشغل عن الأساس وربما جلب على صاحبه الأثم وما لا فائدة فيه.
وأعود لأصل الحديث في وجوب احترام الرأي الآخر بوجه عام ما لم يخالف نصّاً من الكتاب والسنة وأقول إننا لا نعجب حينما نسمع من يعتز برأيه وإن كانت صفة جاهلية وصفة للمتكبرين وليست صفه من صفات المتقين قال الله تعالى فيما يحكيه عن فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} (29) سورة غافر، وإذا كانت الآراء الخاصة دنيويةً فيجب أن تقدر وتحترم ما لم يكن بها مخالفة لما في دين الله.
خاتمة:
قال الإمام الشافعي: ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ.. وقال: ما كلمت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه رعاية من الله تعالى وحفظ وما كلمت أحداً قط إلاّ وأنا لا أبالي أن يبين الله الحق على لساني أو على لسانه؛ أو كما قال.
alomari1420@yahoo.com