قال أبوعبدالرحمن: منذ تَذَوَّقتُ الآداب بمعيار القيمةِ الجمالية: أنتجتْ ليَ المُعاناة التجريبية أن ذلك لن يتحقَّق إلا بعد عناءٍ مع تحصيلِ خِبْرة تعاونٍ بشري لفهم النصِّ؛ وذلك هو منهج (النقد التفسيري الجماعي التعاوني)..
.. ومن عناصر هذا المنهج الدراسات التاريخية لبيئة الأديب، وللمذاهب الأدبية في عصره ومِصْره، والمؤثرات في ثقافته.. وأجلو الفرق بين مذهب النقد التفسيري التعاوني الذي غرضه معرفيٌّ بحت، وبين ما هو من صميم النظرية الأدبية وهو الإحساس بالجمال الفني؛ فأذكر مسألة (الرمز)؛ فهو قيمة جمالية مقصودة يكشفها الإحساس بالجمال، و هو قيمة فكرية يختفي وراءها الأديب دون البوح بغايته وإن كان الرمز ليس قيمةً جمالية دائماً؛ فهذه يكشفها منهج النقد التفسيري التعاوني، ويُجلِّي نيَّة الكاتب وأهدافه؛ وبما أن منهج النقد التفسيري لخدمة الكشف عن القيمة الفنية، وليس هو نفسها : رأيت مثل (جورج بواس) في كتابه (الفلسفة والشعر) يجعل هذا المنهج حاكماً على الأفكار في الشعر بأنها عادة مُـمتَهنة زائفة، ويقول: “ما مِن أحدٍ تجاوز السادسة عشرة من عمره يجد أن قراءة شعر الشاعر لمجرد معرفة ما يقوله تستحق منه أي جهد” (انظر نظرية الأدب ص141 وص402).
قال أبوعبدالرحمن: أما أنها زائفة مُمْتهنة فذلك صحيح لو كان الهدفُ غيرَ استخراج القيمة الفنية، وأن المتلقِّي لا يُضيف جُهداً لاكتشافها بحسٍّ جمالي ورؤية فكرية؛ فليس عادةً زائفة ما هو سبيلُ فهمٍ وإحساس؛ بل الزائفُ العنادُ ومكابرة الواقع العلمي؛ لأن المراد فهمُ ما كان غامضاً، وفهمُ ما هو مختلف إدراكه، ومحال الاستمتاع بقيمة النص الفني قبل فهمه.. وأما نفيُ (جورج بواس) الجهد فغير مسلم؛ لأن الرمز يحتاج فكُّه إلى قريحة وكدِّ ذهن وثقافة، والهدف من حل الرَّمز: إما الكشف عن نيَّة الكاتب، وهذا يتعلَّق بعنصر (الجلال)، وإما الكشف عن غموضه؛ لتتجلَّى قيمة الجلال والكمال معاً، أو يظهر نقيضهما.. والدراسات النفسية ذات مردود على منهج النقد التفسيري، ومنهج الكشف عن القيمة الجمالية، وهذا هو ما نجده مُفرَّقاً في تقسيم (رينيه ويليك ) وزميله في كتابهما نظرية الأدب ص 101؛ إذ جعلا علاقات الأدب بعلم النفس محصورة في التالي :
1- الدراسة النفسية للكاتب بوصفه نموذجاً وفرداً.
2- دراسة عملية الإبداع عنده.
3- دراسات نفسية تربط الأديب وأدبه بالأنماط أو القوانين التي توجد في الأعمال الأدبية.
4- دراسات نفسية تكشف عن آثار الأدب على قُرَّائه.
قال أبوعبدالرحمن: إذن فِعْلُ الدراسة السيكولوجية أنه يكشف من جهة عن جوانب من القيمة الجمالية بتحليلها فكرياً وفنياً، وبتحليل ملكة الإبداع عند الأديب.. ومن جهة ثانية يكشف عن مِزاج الأديب وانتمائه الذي يُخْفيه.. إن التحليل النفسي يتجاوز المدلول -الذي هو وقائع النص-؛ ليكشف عن تفسيره من ناحية الباعث له، والكشف عن نية الكاتب ووسيلته في إخفاء الباعث.. وقد تكثر التحليلات النفسية وتتناقص، ولكن المرجِّح يوجَد في الوقائع التاريخية كسيرة الأديب، ومن أمثلة ذلك حيرة المحلِّلين لمسرحية (هملت) لشكسبير حول تساؤل واحد هو: (ما الذي جعل هملت يتوانى في الثأر لأبيه)؛ فمن بين تلك التعليلات : أن تديُّنه المسيحي منعه من قتل عمه، أو أنه امتزج عنده حب عمه وكرهه معاً.. ولو كان يحبه وحسب، أو يكرهه وحسب لتغيَّر الموقف.. ومنها أنه ضعيف الإرادة يغطِّي جبنه بالتأني الفكري (انظر التحليل الممتع لتحليلات الدارسين لموقف هملت في كتاب التفسير النفسي للأدب ص134-163).
قال أبو عبدالرحمن : التحليل لتواني هملت -مع أنه بطل مسرحية وهمي أو نموذج لواقع- لا يختلف عن تحليل فعل شخص واقعي؛ فما عليك إلا أن تعيد قراءة المسرحية، وليس على بالك إلا إحصاء سيرة هملت ومعرفتها؛ لتأخذ من خبرتك بسيرته المرجَّح بين تلك الاحتمالات أو غيرها.. وسيرة البطل معروفة محصورة في المسرحية؛ فالرجوع إلى تحليل سيرته أسهل من الرجوع إلى سيرة شخص واقعي؛ وإنما تبحث بعد ذلك من سيرة (شكسبير) الواقعي ما عساه يكشف عن سر اختياره هذه الشخصية الوهمية.. وعندما يزعم غونتر بلوكير (أن للعمل كينونته لا مدلوله) فمعنى ذلك أن مسرحية شكسبير انتهت فنياً بعلمنا أن هاملت تردَّد في قتل عمه وحسب.. ولكن القيمة الفكرية لم تنته بعد؛ لأننا نريد أن نعرف لماذا تردَّد هملت بالمنهج التفسيري، وقد يُضاعِف المنهج التفسيري القيمةَ الفنية؛ فيُظهر لنا التأمُّل الفكري أو الحدسي ظاهرةَ مدهشة (والدهشة من عناصر الجمال) من خلال العرفان بأسباب تردُّد هملت، وقد تغيب الدهشة؛ فيبقى المدلول ويغيب المعيار الجمالي عن هذه الظاهرة.. وعلم الاجتماع مرجع للمنهج التفسيري، وأكثر ما يكشف عن الحسِّ الجماعي الفِئوي التاريخي أو المذهبي أو الجغرافي؛ فالنكتة في مجتمع فطري بدائي قيمة جمالية وإن كانت ساذَجة، ولكنها تصبح باهتة أو باردة في عمل كوميدي يُقدِّمه على المسرح ملهمون أمام مجتمع ذي حضارة وفكر.. وفي تحليل (رينيه ويليك) وزميله علاقةَ الأدب بالمجتمع قرَّرا أن الوسائل كالرمزية والعروض تقليدية اجتماعية في صميم طبيعتها؛ وذلك لصلتها بوضع اجتماعي مُعْطىً بنظام اقتصادي أو اجتماعي (أعراف وتقاليد) أو سياسي (انظر على سبيل المثال النقد الأدبي لأحمد أمين ص24).
قال أبو عبدالرحمن: على أن لي في هذا الإطلاق تحفُّظاً لوجود أدباء نُزَّاع يُغَيِّرون ويتطلَّعون وينطلقون من استشرافهم لا من واقع مجتمعهم، ولوجود أدباء مُزَيَّفين يُضخِّمون الهامشي ويسقطون الواقعي.. إلا أن الأديب الأخير يبرز تزييفه في الحياة العامة لا في الوسائل الأدبية كالرمز والعروض.. ونتيجة التحليل الأدبي عند الناقد الفرنسي (تين) كما في نظرية الأدب ص 119-120: أن الأدب يخضع لما يرثه الناس من المزاج والنفسية، وللوسط المحيط بهم من مناخٍ وبيئة طبيعية وأحوال سياسية واجتماعية، ولواقع الزمن (روح العصر).
ومن عناصر المنهج التفسيري الارتباط بالسيرة كما فعل (رينيه ويليك) وزميله (أوستن وارين) في كتابهما نظرية الأدب ص93 بتصرف غير مخل؛ فقرَّرا العلاقة في ثلاثة أنحاء :
1- إيضاح العمل من خلال شخصية الكاتب وحياته؛ وذلك من أقدم مناهج الدراسة الأدبية وأقواها.
2- الحكم على السيرة من خلال الضوء الذي تُلْقيه على العمل بشرط أن يكون الكاتب ذا ميزة كأن يكون عبقرياً.
3- أن دراسة السيرة تُقَدِّم موادَّ من أجل دراسة منهجية للعمل الأدبي.
قال أبو عبدالرحمن : لم أجد فارقاً بين الأول والثالث؛ فالإيضاح المذكور في النحو الأول عنصر من الدراسة المنهجية المذكورة في النحو الثالث.. ولما أجريتُ منهجي النقدي في دراسة بعض أدب الصهيوني (كافكا) كما في مجلة التوباد 1/22-31: صاح بي أحد أحبائي من التراثيين، و هو أخي الفريق يحيى المعلمي رحمه الله الذي نشر تعقيبه بجريدة الرياض قائلاً: (كافكا.. كافكا.. ما هذه الكلمة الغربية)؟.
قال أبوعبدالرحمن : لست والله أدري ماذا يريد هذا المُحبُّ : هل يريدني أن أسمي (فرانز كافكا) محمداً أو عَرْمان أو سعيداً أو جُمعة، أو يحيى؟.. لقد لاب ببال هذا المحب إلزام أبي عبدالرحمن بأن يكون خواجة؛ لأن أبا عبدالرحمن -وهو ابن تنائف نجد- راح يكتب عن كافكا الخواجي؛ وإنما كتبتُ من أجل جلاء خطر صهيونيةِ فرانز كافكا.. ولو استجبت لهذا الاستغراب لكان الإمام ابن حزم والإمام ابن تيمية رحمهما الله خواجيين رومانيين أو يونايين؛ لأنهما كتبا عن المنطق الأرسطي لأرسطوطاليس، وعن ضلال الفكر الهيليني.. وهكذا بقية العلماء إلى أن تصل إلى أمثال الدكتور البهي والشيخ محمد قطب الذين كتبوا عن ضلال كل خواجة، أو عن كل مضغٍ خواجي.. ولو استجبت لهذا الاستغراب لكان من قَدَر حامل العلم الشرعي أن ينعزل عن هموم عصره أو أعبائه؛ ليظل في مأثور القضايا التي عالجها وفرغ منها علماء السلف؛ فإذا رق طبعه الأدبي عاد إلى مسامرة امرئ القيس وابن حِلِّزة.. إلخ.. إن هذا المحب بعبارات قابلة للتورية بالجناسِ: (من استغراب في استغراب)؛ فكيف لا يكون لي شأن بكافكا وأمثاله من زبَّالي الصهيونية والطائفية؟.. ألأنني لا أجيد لغته؟.. إذن يحرم على من لغته العربية والإنجليزية أن يقرأ فكراً أو أدباً فرنسياً، أو عربياً، أو أسبانياً، أو روسياً، أو هندياً.. إلخ؛ وإذن يحرم على سلفنا محاكمة الفكر الهيليني والروماني والهندي والصيني والعبري، والفارسي والتركي؛ لأن بعضهم إنما أشرف عليه عن طريق الترجمة.. وإذن يلزم عن ذلك أن الترجمة -أيَّ ترجمة- غير مُوصِّلة، ولا فائدة من الترجمة في الوجود كله، وأن العلم بتراث الإنسانية يتوقَّف على إحاطة العالِم بمفرده بلغات الدنيا، وسبحان من لا تختلف عليه الألسن، ولا تشتبه عليه اللغات!!.
قال أبوعبدالرحمن: ومن عناصر منهجي التواصل مع التراث الإنساني قديمه وحديثه، ومن يجيد لغة أو أكثر غير لغته الأم فهو محتاج إلى الترجمة لتراث إنساني لا يجيد لغته، وما أجاد لغته فلن يستفيد منه حتى يكون ذا تخصُّص في المادة.. والنصُّ الفني - ولا سيما في الشعر- عصيٌّ على الترجمة من جهة موسيقى المفردة، والصورة المجازية المطابقة.. إلا أن الأديب الذي يحسن لغة ثانية سيكون أدقَّ إحساساً بالقيمة الجمالية، وقد يفوقه من لا يجيد أي لغة ثانية إذا قرأ نصاً واحداً بترجمات كثيرة، وهذا واضح في كُتيِّبي الذي شاركني تأليفه أخي الأستاذ عبدالله الماجد عن (فلسفة الكُوز) وهو خاص برباعيات الخيام.. وموجز القول : أنني لا أتمطَّق بلهجة خواجيَّة لا أُحسنها وإن صعب على لساني النطق ببعض أسماء الأعلام أو المصطلحات؛ وإنما أتعامل مع التراث الإنساني فكراً وأدباً، وقد يكون المشارَك في ذلك المسار امرأَ القيس العربي الوثني الكافر، أو أبا العلاء الأديب الباطني، أو فرانز كافكا اليهودي، أو ابن تيمية الإمام المسلم العابد الزاهد، أو رينيه ديكارت النصراني.. وأُذكِّر في هذه المناسبة بضرورة التمييز بين كلمةٍ لكافكا وكلمة عن كافكا، وبين كلمة تدعو إلى الغثيان الكافكي الصهيوني وبين منهج نقدي يرفض الانخداع بكافكا.. وأُذكِّر بأنه لابد من الشعور ببصمات كافكا على الأدب العربي الحديث؛ وإنما اخترت كافكا وأدبه موضوعاً لمنهج النقد التفسيري التعاوني -بعد تحقيق لي مسبق عن تصنيف الأدب بمعيار القيمة الجمالية، واستبعاد الأوشاب المنسوبة للأدب وليس منه كما في كتابي العقل الأدبي 1/111-؛ لأن كافكا نموذج نادر لتباين الآراء حوله تبايناً لا وسطية فيه؛ فهو عند قوم الأديب الإنسان، وهو عند قوم الأديب الصهيوني العدو للإنسانية!!.. وهناك من يدرجه في مذهبٍ بانتماءٍ حر، وليس بدافع صهيوني؛ وهذا حينما يلتفت الدارس إلى ظاهرة في أدب كافكا تنتمي إلى مذهب ما كما في دراسة الدكتور عبدالغفار مكاوي لكير كجارد الفيلسوف الوجودي.. ومنهج النقد التفسيري التعاوني منهج علمي فكري مساندٌ النظريةَ الأدبية التي غايتها إظهار القيمة الجمالية للنص الأدبي؛ وبهذا يكون خارج النقد الجماعي التفسير المتكامل كلَّ نقد تطبيقي يهدف إلى تقدير القيمة الفنية بإحساس جمالي، أو رؤية فكرية، أو تجربة سلوكية؛ لأن منهج النقد الجماعي وصفي تحليلي تفسيري يريد مدلول العمل الفني كما لو جاء بتبير مباشر عادي، أو بتعبير فلسفي معقد.
قال أبوعبدالرحمن: ثبوتُ صهيونية الأدب تنفي تلقائياً إدراجه في ساحة الأديب الإنسان؛ لأن حُجَزَ الصهيونية تأبى هذه الساحة الرحبة الكريمة، وتحصره في دائرة الصهيونية المعاديةِ البشريةَ؛ لأن كل تمظهر إنساني لدى الأديب الصهيوني وسيلة لغاية غير شريفة، ولهذه الظاهرة مناسبة أوسع، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان وعليه الاتكال.
- عفا الله عنه -