انتشرت هذه الكلمة “المهايط” منذ زمن ليس بالبعيد وبشكل كبير في الأوساط الشبابية على وجه الخصوص،، وكنت أظنها حينذاك من الكلمات المستحدثة التي أبدع في سكها جيل اليوم،، حتى زرت قبل أشهر معدودة إحدى المدن الشمالية بصحبة مجموعة من الأكاديميين والمثقفين،، وإذ برجل ستيني من أهل تلك المدينة يجيد فن القول ويبدع في سرد الحكايات والقصص الحقيقي منها والخيال،، ويحفظ كثيراً من الشعر الفصيح منه والشعبي وله طبيعة متميزة وعنده قدرة فائقة في جلب الانتباه ولفت الأنظار،، وبين الفينة والأخرى يقول معتذراً (اعذروني ترون “مهايطي” وأنتم اللي عندكم العلم وتعرفون كل شي،، بس حنا نوسع صدورنا بها المهايط).. أخذت معي الكلمة بعد هذا اللقاء العاجل بعداً آخر لم يكن من قبل،، ومن خلال البحث والتقصي والسؤال عرفت أن “المهايط” كلمة عربية صحيحة،، وتعني فيما تعني -كما جاء في القواميس والمعاجم اللغوية - الصياح والجلبة،، قال عنه أحد كتاب النت بأنه: (فعل الشيء والمجازفة الخطرة بقصد التلميح والاستعراض )، وقسم هذا الكاتب الساخر “المهايط” إلى: (هياط قولي،، وهياط عملي) وضرب أمثلة واقعية لهذين النوعين من الهياط في المجتمع السعودي.
إن التتبع التاريخي لهذه الظاهرة / الإشكالية في المجتمع السعودي تدل على أنها ليست جديدة في حياة العرب بل هي ملازمة لهذا الجنس من البشر الذي كان وما زال يعشق المفاخرة،، ويهوى حديث الآخر عنه،، ويريد أن يركب كل غريب من أجل لفت الأنظار،، ومن أراد أن يستزيد ويبرهن ويدلل فعليه الرجوع إلى شعر الفخر العربي سواء ما كان منه فخراً بالذات أو بالقبيلة أو بالأرض والعشيقة و الذي يحكي جانباً عن “مهايطة” من سبق،، ولكن لابد هنا من القول بأن هذا السلوك يضعف ويتعزز حسب البيئة الحاضنة،، وفي ظل ظرف الزمان والمكان والحال الذي يمر به الإنسان، والأمم كالأشخاص تماما فكلما كانت الأمة إلى الحضارة أقرب فهي عن هذا السلوك أبعد والعكس بالعكس.
لقد استشرى “الهياط” اليوم في أوساطنا المجتمعية “المتعلم منها والعامي،، المدني والقروي والبدوي،، الذكوري والأنثوي،، الشباب والشيب.. ويمكن إرجاع هذا النهج المجتمعي إلى كثرة ميادين المنافسة التي لا تنبني على القوة والعمق الحقيقي بقدر ما تقوم على الشكليات والظواهر.. والأمثلة التي يستحضرها كل منا في هذا الباب كثيرة ومتعددة وذات ألوان وأطياف مختلفة سواء أكانت تحت مسمى العلم أو الجاه أو المركب أو القبيلة أو الممتلكات أو المال أو القصيد أو الكثرة أو... وساعد على سريانها في المجتمع قنوات الإعلام الخاص ومواقع التواصل الاجتماعي والمنافسات والمسابقات التي لا تعتمد على أسس علمي بل إنها قائمة على مفاهيم ومرتكزات أخرى تحتاج من صناع القرار والعقلاء والمخططين وأهل الحل والعقد إلى إعادة نظر فيها من جديد !!،، كما تعززت فعاليتها في ظل عجز المتلقي عن التميز بين الصحيح والسقيم،، واختلال موازين القياس في ظل غياب العدل القولي جراء جعل الأحكام الشخصية للعاطفة أقرب منها للعقل.
إن هذا اللون من الثقافة متى استشرى وكان هو الأساس في التقييم والتقويم فسيولد مجتمعاً فارغاً من المضامين الفاعلة والقوية،، ويجعل الكل يبحث عن لفت الانتباه أياً كان الثمن،، ويبرر للعاملين استعجال النتائج ومحاولة حرق المراحل من باب القياس على ما عند الغير المماثل والمعايش والنتيجة الطبيعة “غياب الثقافة الحقيقة واحتلال أرضها لصالح “المهايطية”،، وتواري المثقف الحقيقي عن ساحته المجتمعية لينبري ويأخذ الدور مثقف شكلي يجيد هذا الفن من القول أو حتى العمل ولا يستطيع أن يعبر بنا البحر لشاطئ الأمان،، وقد سبق أن بينت الفرق بين “الكينونة” و”التملك” في شخصية المثقف المعاصر في مقال سابق،، دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.