|
تحقيق - راشد الزهراني / تصوير- حسن محجاني:
على ضفاف الكورنيش الشمالي للبحر الأحمر، يلتقون مساء كل يوم جمعة، وبإشراف سيدة يدعونها (الأم الطبيعيَّة)، يجتمع قروب (الحياة أمل) وهم فئة من ذوي الإعاقات المختلفة، والذين طلبوا منَّا أن نلقبهم (بذوي التحدِّيات الخاصَّة)، حيث لا يرون أن للإعاقة مكانًا بينهم.
تقود هذا القروب وتبث فيه الحماس سيدة تدعى كوثر إسماعيل وهي طبيبة متخصصة في ذوي الاحتياجات الخاصَّة، وقد تحدَّثت لـ(الجزيرة) عن هذه الفئة من الشباب: «لقد كوّنا هذا القروب منذ ما يقارب الخمس سنوات باجتهاد فردي، ثمَّ مجموعة صغيرة إلى أن وصل العدد إلى ما يقارب الـ70 شابًا وشابةً من مختلف الإعاقات وقد خصصنا مساء كل يوم جمعة من بعد صلاة العشاء إلى منتصف اللَّيل بالخروج إلى الكورنيش، كما خصصنا مكان وجودنا حتَّى يكون معلمًا للجميع».
الفئات التي تشكّل هذه المجموعة جاءت من مختلف مناطق المملكة، فمنهم من يسكن في مكَّة وآخرون في المدينة المنورة والطائف وهم ينتظرون يوم الجمعة بفارق الصَّبر حتَّى يروّحوا عن أنفسهم.
تضيف الدكتورة كوثر: «الحمد لله تحقَّق لنا الكثير من الأهداف، منها خروجهم إلى المجتمع ودمجهم مع الآخرين وقد شجَّع بعضهم بعضًا على مواصلة التَّعليم والزَّوَاج فيما بينهم والكلُّ يحمل في داخله طموحات يسعى لتحقيقها حتَّى إن هناك من العائلات التي تشاهدنا على الكورنيش ونحن في رفاهية لا يسعهم إلا المشاركة معنا ومنهم من لديه شابٌ معاقٌ فيحرص على إدماجه معنا ليفضفض عن نفسه.
ولعل من المهم الإشارة إلى أن هذه المجموعة لا تتلقَّى دعمًا من مؤسسات أهلية أو حكومية وذلك بناء على موقف يرفض الدَّعم ويفضّل عليه الدَّعم الذاتي الذي يقدمه أعضاء المجموعة كلٌ بما تجود به نفسه، حيث يحصل بعض على مكافآت من الشؤون الاجتماعيَّة، وكذلك الضمان الاجتماعي، وهناك من يعمل في شركات برواتب متواضعة تسد حاجاته، وأن كان بعض المتزوجين ينقصهم المال لجلب مستلزمات المعيشة وحاجات الأطفال وخلاف ذلك.
لا يوجد أماكن أو ألعاب ترفيهية
وعن حاجات هذه الفئة من المجتمع تقول إسماعيل: «هؤلاء لا يحتاجون من المجتمع سوى النظرة السوية لا النظرة المشفقة التي تسببت في خلق عدم الانسجام ما بين الأسوياء وهؤلاء الفئة، ومن خلال اختلاطي معهم وجدتهم وكأنهم هم الأسوياء ونحن المعاقون، فهؤلاء يعيشون في عالم آخر يملؤه التَّفاؤُل بالحياة والأمل. وأبدت الدكتورة كوثر عتابًا على المسئولين في أمانة جدة لعدم التفاتهم لهذه الفئة، وتضيف: أين الأماكن المخصصة لهم أو الألعاب الترفيهيَّة أو حتَّى دورات المياه أو ممرات للعربات أو مواقف خاصة على امتداد البحر؟ لا بد من وجود ولو مكان واحد يخصص لهم، فليس هناك سوى ممر واحد فقط تضايقنا فيه سيَّارات المتنزهين مما يضطرنا إلى استدعاء دوريات المرور لسحبها بالرغم من أن بعض هؤلاء السائقين يدركون تمامًا بأن هذا الممر مخصصٌ لذوي الإعاقة إلا أنهَّم لا يبالون، فليس هناك عقوبة أو مخالفة تردعهم حتَّى يعطوا الحقوق لأصحابها».
مناهج تعليمية مبسطة
كما طالبت كوثر وزارة التَّربية والتَّعليم بوضع مناهج تعليميَّة مبسطة خاصة تُؤهِّلهم للاندماج التَّعليمي، فهناك متعاونات دائمًا يشاركننا ومنهن الأستاذة أمل زهيري وهي مديرة سابقة لعدد من المدارس وكذلك أول مديرة قامت بدمج البنات من ذوي الاحتياجات الخاصَّة في مدرستها ومتعاونة مع جمعية الأمير سلطان بن سلمان وهذه السيدة يمكن الاستفادة منها لما تحمله من أفكار وهمَّة وهي مستعدة بالعمل التطوعي في كلِّ ما يخدم مصلحة لهؤلاء الفئة العزيزة على قلوبنا.
تزوجت وزادت المسئولية
محمد البشري ومريم الحربي زوجان من ذوي التحدِّيات الخاصَّة لم يمض على زواجهما سوى سبعة أشهر، يقول البشري: «عمري 27 سنة وأعمل في شركة ولله الحمد براتب متواضع لا يفي بمستلزماتنا المعيشية، فهناك إيجار منزل وراتب خادمة في البيت وهي التي نعتمد عليها في كثير من أمورنا وكذلك أملك سَيَّارَة بنظام الأقساط وقد تكبّدت عناء تجهيزها لتناسب إعاقتي فلم يزل عندي بصيص من الأمل والحلم بالرغم من أنَّي أول من تقدم لهذه السيَّارات بعد أن أمر بها خادم الحرمين الشريفين -أطال الله في عمره- كما كانت الفرحة تغمرنا نحن المحتاجين ولكن لم يزل الأمل موجودًا بإذن الله.
وعن سبب إعاقته يقول: هشاشة في العظام منذ الصغر بسبب خطأ طبي، حيث كنت طبيعيًا أسير على قدمي ولكن قدر الله وما شاء فعل.
مريم تحلم بمنزل
مريم الحربي تلك الفتاة الباسمة طولها لا يتجاوز النصف متر وهي زوجة محمد البشري تقول: نحمد الله على كلٍّ حال فنحن قروب «الحياة أمل»؛ لأن حياتنا كلّّها أمل وأملي في هذه الحياة بأن يملك زوجي محمد سَيَّارَة معاقين ونملك منزلاً يجمعنا ويطمئن حياتنا، فالحياة أصبحت تضيق علينا ومتطلبات المعيشة في ارتفاع ومستلزمات المعاق غالية والأدوات الصحيَّة تكلفنا الكثير.
معاق يتحدَّى سماسرة العقار
بكل ابتسامة وفرح وتواضع، استقبلنا الأخ يوسف وهو من ذوي التحدِّيات الخاصَّة، معاق الحركة لكنَّه منطلق العقل والعزيمة، يقول يوسف: إنه مولود بإعاقته ولكن لم يستسلم لها، فهو كثير السَّفَر خارج المملكة وهو من كبار سماسرة العقار وليس لديه مكتب، بل بجواله الخاص، كذلك لديه عددٌ كبيرٌ من الأسهم في شركات كبيرة في المجال العقاري والاقتصادي.
كفيف يتحدَّى الإعاقة بالبطولات الدولية
وليد بامفلح كفيف البصر وبطل من أبطال الاتحاد السعودي، يقول: إنه لم يستسلم يومًا لهذه الإعاقة، بل يعدها ميدان التحدي، حيث بدأت إعاقته في سنِّ مبكرة ولكن طموحاته لم تتوقف، يتحدث «بعد حصولي على الشهادة المتوسطة، بدأ المرض يكفف بصري فأخذت على عاتقي عهدًا بألا استسلم وبدأت أبحث عن وظيفة مناسبة وقد نجحت فيها إلا أنهَّم تضجروا من وضعي الصحي، ثمَّ طلبوا مني بأن أبقى في بيتي والراتب يصلني كل شهر، كما رفضت هذه الفكرة وقدَّمت استقالتي وأنا الآن أتجوَّل بملفي أبحث عن عمل يسد الحاجة، وأسرتي كبيرة وأنا أكبر إخواني والعائل لهم.
وعن قروب «الحياة أمل» قال بامفلح: «عندما تعرفت على هذه المجموعة أدركت تمامًا بأن الحياة فعلاً أملٌ، وهذا مما شجعني بأن التحق في الاتحاد السعودي وقد شاركت في بطولات عالميَّة لفئات الإعاقة البصرية وحققت المراكز المرموقة ولله الحمد سواءً في السباحة أو ألعاب القُوَّة والحديد».
عمار بوقس نموذج للنجاح
عبد العزيز الكديس يبلغ من العمر 31 عامًا وسبب إعاقته (أنيميا منجلية) عانى منها بعد بلوغه سن السادسة وتضاعف المرض حتَّى أقعده على كرسي الإعاقة، يقول الكديس: «نحن نتضجر من كلمة معاق؛ لأن المعاق هو معاق في كلِّ شيء، أما نحن فلدينا طموحات وإنجازات وأحلام نحققها ولم يعقنا ما نحن فيه عن أيِّ شيء فمنا المُوظَّف والمتزوج والتاجر والمحترف والموهوب، جميعنا نعرف ذلك الشاب من ذوي التحدي (عمار بوقس) كيف هو على كرسي الإعاقة لا يتحرَّك سوى رأسه - حفظه الله- من كل سوء، وحاصل على ماجستير إعلام مع مرتبة الشَّرَف الأولى أيّ أفضل من شاب صحيح القامة والحركة، فهو فعلاً كما سمى نفسه (قاهر المستحيل) ففينا طاقات هائلة ولكن لا يكشفها إلا الذي يدخل إلى عالمنا.
الأب الذي أذهل الأمريكيين
وفي الجانب الآخر وجدنا ذلك الأب الملقب (بالأب المعجزة) وهو يداعب ابنه المعاق (ساري)، أما هذا اللَّقب فهو من هيئة التمريض بأمريكا تقديرًا لما بذله من جهد استثنائي إبان رحلة علاج دامت 12 سنة رافق فيها ابنه، إنه ساعد الصاعدي الحربي وهو موظف حكومي لديه أربع من الأبناء وساري الابن الأكبر المعاق حركيًّا وعمره 13 سنة تقريبًا، حيث ولد مبكرًا في 6 أشهر و24 يومًا ويعاني من نقص في الأكسجين وشلل في الأطراف وضعف حاد في النمو، ويشرح الحربي جانبًا من حالة ابنه «الدَّوْلة لم تقصر ممثلة بوزارة الصحة حيث عالجته في أمريكا وعلى مدى 12 عامًا تحسن حاله كثيرًا عمَّا قبل، فأصبح يمشي على قدميه أفضل رغم فقدان الأمل، لقد بذلت كل ما بوسعي في ممارسة العلاج الطّبيعي مع ابني وكان الأمريكيون يتفاجؤون بالتحسن النوعي في العلاج، فكنت أشجَّع ساري بالهدايا القيمة في كلِّ خطوة يخطوها والحمدلله رجعنا إلى هذا الوطن ونحن بأحسن حال، أما أنا فمشواري لم ينته بعد، فابنتي الصغرى لمار التي تبلغ السنة الخامسة هي مريضة كذلك بمرض نادر يصاب به شخص واحد في المليون شخص، وقد بحثت عن علاج لها فلم أجد سوى في (التشيك) ولكن بعد أن يبلغ عمرها السادسة أيّ بعد سنة من الآن وقد قدَّمت تقاعدًا مبكرًا من العمل حتَّى أتفرغ لهذه المهمة التي يسألني عنها الله يوم القيامة».
ساري ذلك الطفل الذي تحدى الإعاقة يقول: إنه لم يستطع الحياة في أمريكا بعيدًا عن إخوانه ويضيف: «انتظر يوم الجمعة بفارق الصَّبر، فنأتي من مكَّة عند أمي الطبيعيَّة (أم انمار) وهي السيدة كوثر إسماعيل، فهي تعوضني عن فقدان حنان الأم، فأنا أستطيع المشي وسوف ألعب مع أصدقائي في المدرسة وأنجح وأصبح طيارًا حربيًّا أدافع عن وطني».