- أمُّ المَعارك: أوَّل مواجهةٍ عربية للأغيار كانت أُمَّ المعارك، ويا لها من أُمٍّ أسلمت ابنها الأكبرَ البطلَ (عراق العرب) إلى (عراق العجم)!!.. أما في تجربتي الضعيفة الساذَجة فلا أعهد أمَّ المعارك إلا عند كهل له زوجةٌ شابة جميلة، وزوجتُهُ التي هي أمُّ ولده، وهي جميلة، ولكنها من القواعد التي تَشْتهي ولا تُشْتَهى؛ فإذا قَسَمَ لها ليلتها، وقال: (ربِّ هذا قَسْمِي فيما أمْلِك؛ فلا تؤاخذني فيما لا أملك) فإنه سيرتاح عند الشابة ليلة مستعداً للحرب في الليلة التي بعدها؛ فيعيش نِصفَ دهره في جهاد عنيف مع أمِّ المعارك!!.
***
- بَيْتُ الهُوِيَّة: قال (غاندي) كما في مجلة فكرٍ في عددها 62 ص 159: (لا أريد لنوافذي تبقى مُغْلَقةً.. أريد أن تَهُبَّ على بيتي ثقافات جميع الأمم بشرط أن لا تقتلعها من جذورها).
قال أبو عبدالرحمن: ما أجملها من عبارة!!.. ولولا الله ثم صراعي مدى العمر لهذا المطلب لكنتُ عامياً يعيش في غير عصره، أو قطعة من المتحجِّرات التي ينصبها علماء الآثار في المَتْحَفِ؛ لتكون شاهداً على شيء من الماضي كان فبان.. والمَتْحَف بفتح الميم والحاء المهملة صحيحة فصيحة وهي أبلغ؛ لأنها مكان تُحَفٍ يَخرج منها دلالةُ الفاعل، والإصرار على ضم الميم (مُتْحَفٌ) وفتح الحاء المهملة تنطُّع، وهي صحيحة؛ لأن فيها معنى مفعولٍ يُغَذَّى بالتُّحف؛ وإنما المُراعَى أنه مكانٌ يُتحِفُ المشاهِد، وكم من (مُتْحَفٍ) بضم الميم وفتح الحاء بصيغة اسم المفعول غير (مُتحِف) بكسر الحاء على صيغة اسم الفاعل.. وهبوب الثقافات مطْلَب لا تَرْوَى منه النوافذ ما ظلَّ كيانُ الهُويَّة، وما ظلت النوافذ لم تُقْتلَع من جذورها.. وأمَّا الذي تُبَدَّل هُوِيَّتُهُ، ويخسر كل معيارٍ في جذوره من الحق والخير والجمال: فذلك هو المسخ، وذلك هو المُستلَب، وذلك هو مَن تبول عليه الثعالب، وذلك هو مَنْ يُطَيِّبه أدونيس وأركون والصادق النيهوم.. إلخ.. إلخ ممن لا يحصيهم العدُّ بأنتن ما خَلَّفته الأكلات الكيميائية بعد فساد البيئة بغازات تزكم الأنف، وتسيل الدمع، ويحَمرُّ منها الجفن.
***
- خيطُ البداية: قال الدكتور غازي القصيبي لجريدة الوطن كما في أربعاء جريدة المدينة في 15 -9-1432 هـ ص 39: (اليوم استأذنكم بالغياب، ولا أعلم متى أعود!؟.. لكنه مُلِحٌّ جدّْاً.. ويدفعني إليه كائن مُتعب ومجهد من الركض، ومن طرق أسئلته المزعِجة النزِقة التي تحتاج إلى ترويض قبل عبورها لـ (كلاكيتيات).. أسئلة تدفعني إلى سفر طويل (يريد سَفَرَ القلم والفكر)، ولا ترضى إلا بإدخالي إلى دهاليز التاريخ وصُحفه ومسوداته السوداء (أعني التاريخ، وهو أكثر الكائنات الورقية حيلةً ورياءً ونفاقاً وكذباً)؛ إذا ما رفضتَ حمله أسفاراً على ظهرك الطيني؛ ولا محالة حينها من أن تُسقط بطولات شخوص أحببناها، أو تشاهد حوادث كانت يوماً درساً تتلْمذتَ عليه، وتكتشف أنها مجرد أساطير سطَّرها الأولون؛ ليجعلونا نحن عاجزين عن التسطير!.. أسئلة نزِقة فعلاً تقتات على مسلمات فكرية تقبع تحت جُلودنا كي لا نراها، ونُغذِّي بها عقولنا كي نَسْلَمَ (من) شرِّ صانعيها.. وكثيراً ما تُعيقنا عن السفر حيث اللامكان.. وهل تُوجد جغرافية في هذا الكون لا تقبع داخل جوفه الأمكنة.. حتى الفضاء الحالك في زحام المجرَّات يزدحم بالأمكنة لغيرنا.. ربما يكون السفر باتجاه اللامكان سفراً طويلا لا يعلم أجله سوى الرحمن خالقي وخالقكم.. أيمكن أن يكون السفر باتجاه برزخ بين بحرين لا يبغيان، وبينهما تفاصيل الغياب في سفر مُلِـحٍّ، ولا زاد معي سوى شيء من التقوى تُعِين على المسير في رحلة الشك إلى اليقين؟!.. وأعود لأقول: في حياتنا محطات وداعٍ كثيرة.. نحنُ يوميَّا في العمل والشوارع وعند إشارة المرور وحتى (ما أملح (أيضاً) بين الواو و(حتى) أمام التلفاز نستقبل وجوهاً ونودِّعها في ذات (يعني في نفس) اللحظة إلى لقاء قريب جداً، أو بُعَيد حد الغياب نفسه الذي نعيشه داخل ذاكرتنا؛ فلا نعرف إن كانت الدنيا كما يُردِّدون صغيرة، أو كما يردد بعضهم (عاشر من تُعاشر ولا بد من الفراق).. أخيراً سامحوني إن أخطأت بحقكم يوماً (ما أملح التنكير بكلمة (ما) بعد (يوماً) للتأكيد)، واسمحوا لي بالغياب لأيامٍ وقد تكون أسابيع.. ورمضانكم (إن شاء الله) رحمة، وعامكم جنة من الفرح والخير.. إلى اللقاء).
قال أبو عبدالرحمن: إنني إن شاء الله حفيظ عليم بهذه المرحلة في العقد الأخير من عمرغازي؛ ولذلك حديث يأتي، والله المستعان.. والمداخلة البسيطة ههنا أن تفلسف الدكتور تلقائي عفوي؛ لأنه مُصاب بداء الإدمان على قراءة شواهد العصر من لغة عربية عتيقة ولغات خواجية حديثة.. وأبدأ بالأخيرة؛ إذْ فيها إنباءٌ حقيقي بصيغة (التَّنبُّؤِ)، وهي مجهولةُ أسماء صُنَّاع الحدث والمصنوع بهم من عمالقة وأقزام.. وهي غير مجهولة المكان؛ فكلُّ بلاءٍ يحدو به الحادي فإنما هو إلى تركة العرب والمسلمين في سُرَّة الأرض إلى ما تناهى من وَسَطِيَّتها.. وهي غير مجهولة المؤسسات والأحلاف التي تديرها.. يقرأ الدكتور رحمه الله تعالى هذا، ويقرأ خطابات سياسية منافقة في جلباب شعارات لا وزن فيها للمعايير، ومصبُّ جميع معانيها في معنى مُفْردتي لغتنا العربية (الحرية المُطلقة!!).. ويرى ممارسات مجرمة أظهرت أن (الحرية) ليست للأمة؛ وإنما الحُرِيَّةُ لمن يريد أن يهدم هُوِيَّة الأمة.. وهذا الشعار لن يكون مقبولاً حتى يوجد في الأمة - وإن كان أقلَّ من القليل - مَن يكثر ويعلو صُراخه بأنه مِن مُمَثِّلي الأُمة لا بقوة يملكها بل بإعداد من الخارج.. ومِن جراء ذلك رأى الدكتور غازي رحمه الله وجوهاً كريهة تسبح في الماء العَكِرَ، ثم يُقَدَّر لها بين عشية وضحاها زعامة قيادية أو فكرية أو إصلاحية أو دينية، وتتناوح وسائل الإعلام بتمجيدها.. وعاصر الدكتور أعظم الكوارث التي هي بدايةُ الاستهدافِ العربي الإسلامي، والأحداث تتسارع لا تُتِيح أناة للفكر.. والدكتور غير عاجز عن رصِّه جريدة الوطن بعشر صفحات كاملة كل شهر تتكون كل صفحة من ثمانية أعمدة مُصَهْرجةِ القنوات، عارمةِ التدفُّق علماً ووعياً وفكراً، ولكنه تعلَّل عندهم بطول السفر، وتَسارُعِ الأحداث؛ فكأنه يقول: (دعوني أقرأُ.. وأنتم اِقْرأوا واقرأوا واقرأوا؛ فالأمر خطير).. وأما التاريخ العربي والإسلامي فأهل الإسلام نفسه في تأرجح وصعود؛ فأما عهد النبوة والخلافة الراشدة فيقصر عن وَأْدِهِ كيد الكائدين، وقد طالت ألسنتهم بتلفيق الأكاذيب؛ فأضرع الله بأنوار الحقِّ خدودهم، وأخسأ جدودهم (أي حظوظهم).. ثم استمر الأمر إلى بقية القرون الثلاثة الأولى الممدوحة؛ فما أخفى علماء المسلمين شاردة أو واردة من الأخطاء والتجاوز بياناً ودعوةً وتغييراً حسب القدرة مع ميزانهم بمنطق المعادلة، وعصمةِ عَلَنِ الأمة، واكتمال الرقعة الربية والإسلامية، وسلامة أحكام المسلمين واجتهادِهم من إكراهِ الأهواء.. ولم يجحدوا الحسنات الكبرى التي حفظت للأمة هُوِيتها، وذابت فيها مظاهر النقص والتجاوز؛ فأجمع علماء المسلمين ومفكروهم أنهم في ظل دولة وجماعة غالبة لا مغلوبة، وهم مع دولتهم في قهر الأغيار مهما قست عباراتهم في النقد.. ألا ترى الإمام عبدالله بن المبارك - وهو في العصر العباسي، وهو يعلم أن العصر الأموي خير وأزكى من العصر العباسي الذي انتهى بصحوة الموت - عَنَّف القول على العهد الأموي بشعره كقوله:
وَهَى من أمية بنيانها
فهان على الله فُقْدانُها
فلا آلُ حربٍ أطاعوا الإله
ولم يَتَّق الله مروانها
وإنما أراد الرَّدَ إلى الأمر الأول، وأراد موعظة الخلفاء العباسيين الذين يعيش بينهم، وأراد وعظ أقرانه من العلماء أن تغلبهم الدنيا ببريقها؛ فيهملوا النصيحة لولاة الأمر.. وليس في اجتهاده رحمه الله أن الدولتين ليستا ذواتي بيعة حقٍّ وعزٍّ للمسلمين.. وقل مثل ذلك عن الإمام ابن حزم في نقده اللاذع لفقهاء السلاطين الذين باعوا آخرتهم بدنياهم مع أن الدين لم ينفصل عن الدولة والحياة العامة، والقوَّامون بالقسط لم تذهب ريحهم.. وهكذا قوارعه عن بعض سلاطين بني أمية الذين عايشهم مع إيمانه بأنهم دولة حق؛ ولهذا لما سقطت دولتهم أبى أن يبايع أحداً من دويلات الطوائف الأقزام، وكان حنينه للدولة في المشرق.. وهكذا تعامل الإمام ابن تيمية بالعدل مع حُكَّام عصره.. وبعد ذلك عهود الدويلات، وقد تسلَّط فيها عدد من الأغيار، ولكنَّ دويلات الصعود كانت في كفاح، والتاريخ شاهد بما لكل دويلة أو عليها، وليس للتمحُّل في الأكاذيب أيُّ أثر في التلبيس على القارئ الممحِّص، والمفكِّر اللمَّاح.. حاول الأغيار بالأكاذيب إسقاط تاريخ (صلاح الدين)، ولم يُخجلهم الحياء من دعوى أن صلاح الدين حليف الروم؛ فأكذبهم التاريخ الناصع من سيرته وسيرة أسرته، وأكذبهم آثارُ مشاهِده وهي بسبيل مقيم، وأكذبهم العداء الكبير المتراكم من قبل الدول الكبرى لتاريخ صلاح الدين وكراهية عودته.. وحاولوا بالأكاذيب أن يجعلوا الباطنيين من القرامطة (الذين وقع في مَصْيدتهم ترهيباً وترغيباً المؤرخ المقريزي عفا الله عنه) جبهةَ الصدام مع الغزاة؛ فقال لهم التاريخ: كذبتم؛ فالمشاهَدُ في المكان، والمسطَّرُ من أحداث الزمان يخزيكم، وها أنتم اليوم وأمسِ وغداً في تحالف عالمي ضد الإسلام وتركته.. ولا تقدرون على مَسْحِ خِزْيْ ادِّعاء الفاطمي الألوهية، ولا طمس شعرهم الإباحي كالبائية المشهورة بين القرامطة في شرق الجزيرة وبين القرامطة في مصر التي فيها (إباحة نكاح الأخوات، وإتيان الصبي.. إلخ)، وبحمد الله سقطت الفاطمية الادعائية بكل عذابها، ولم يبْق لفكرها الباطني الإلحادي الإباحي أيُّ أثر في كنانة الله بأرضه.. وجمع الله أمر الأمة على الخلافة العثمانية حِقَباً سعيدة حتى أدركهم وَهَنُ الجهل، واستحياءُ الخرافة، وعصيبةُ العِرْق ضدَّ عصبية الدين، وعشعش بينهم الطابور الخامس ابتداءً بيهود الدونمة وجواسيس أهل الكتاب الآخرين، وكان هذا الطابور في حلف مع الدولة الصفوية.. وظهر الرجل اقوي (عبد الحميد) الأسد الجريح - على الرغم من شاذليته -، وإذا الأبواب مُغْلَقة، والأجواء كاتمة، والمناصِر قليل ضعيف، والعرب في نفور بسبب العصبية الطورانية؛ فكان حظه كحظ مروان الملقب (مروان الحمار) لقوة شكيمته، والله غالب على أمر عباده، وأصبحت أمتنا ملفوفة بالاستعمار المباشر، ثم بالاستعمار الفكري، ثم تعانق الأمران معاً الآن، ولله سرٌّ في عباده، ووعده حقٌّ بإظهار دينه وحَمَلَتِه إذا صدقوا في تحمُّل الأمانة؛ إذن التاريخ ينقل لنا الثابتَ والمُزَيَّف، والاستنباط (بورع الفكر، وسعة مصادره، ودِقَّة لَمَّاحِيَّته): يُظهر الثابت والمميز بالبراهين الغالِبة.. وأما تشاؤم الدكتور غازي الذي هو البداية لرثائه نفسه، وأما ما جرَّه ذلك من تفلسف في الكون بعد انتهائي من التفلسف التاريخي فله مناسبة تأتي إن شاء الله.
- أَوَدُّ أنْ أكون واعظاً بلا حياءٍ يُقْلقني: صح بصريح القرآن الكريم أن من يقول ما لا يفعل ممقوت عند الله - وهذا بدلالة العموم من سورة الصَّف، وبدلالة نصوص أخرى صريحة -، ويدخل في هذا من يعظ الناس بشيء ثم يخالفهم إلى ما ينهاهم عنه، والضرر في هذا يشمل أموراً:
أولها: أن ذلك نفاق، والمنافقون في الدَّرْكِ الأسفل من النار.
وثانيها: أن هذا الواعظ يحب أن يُحمد بما لا يفعل.
وثالثها: أن ذلك مخادعة لله.
ورابعها: أن ذلك اصطياد للأمانة، وطلب الأمانة خيانة؛ فما بالك باصطيادها.
وخامسها: أن ذلك الواعظ يدَّعي بلسان الحال أن الله أعفاه من التكليف.
وسادسها: أن ذلك الواعظ يعلن بلسان الحال الإصرار على المعصية؛ لأنه يعصي ويعلن بحرمتها.
وسابعها: أنه يسيء إلى سمعة الإسلام وأهله.
وثامنها: أنه يُنفِّر القلوب عن سماع الموعظة؛ لأن القلوب لا تَرِقُّ للسان فاجر.
وتاسعها: أن ذلك صفاقة وجه، وقلة حياء.
وعاشرها: أن الواعظ الفاجر يندر أن يرجع إلى ربه؛ لأنه لن تؤثر فيه موعظة يتاجر بها.
قال أبو عبدالرحمن: لولا تقصير أعرفه في نفسي يُنافي شرط الداعية لوقفتُ على قارعة الطريق ألاينُ القلوب، وأغالب العقول؛ بيد أن حَدِّي من التكليف الآن هو أن أعظ نفسي.. وههنا مسألة، وهي أن من رجحت قرباته على هفواته يجب أن يعظ الناس بالخِلال التي كان ممتثلاً فيها للشرع؛ فهذا قمين أن ينفع الله به؛ لأنه صادق مع ربه.. وكلما ازداد العبد تقرُّباً إلى رَبِّه: خَفَّتْ عليه وَطْأة الحياءِ في وعظه.
***
- إذا هضمت كتابي فأكيد أنك سوف توافقني.
- من يريد الوقوف بين مفكرين عازمين يوصف بالسطحية والعادية؛ إذ ليس لديه عين تُميِّز ما لا يحدث إلا مرة واحدة؛ وإنما هي رؤية التشابهات فقط، أو مساواة كل شيء.. تلك هي سمات الرؤية الضعيفة.
- لن أقرأ أي كاتب يبدو أنه أراد تأليف كتاب!!.. لكن سأقرأ فقط أولئك الذين تجلت أفكارهم فجأة على شكل كتاب.
- قال أبو عبدالرحمن: هؤلاء هم أصحاب التباريح.
- قال فولتير: قد أختلف معك في الرأي، ولكني على استعداد لأن أدفع حياتي ثمناً لحقِّك في الدفاع عن رأيك.
***
- الجَهْلان: للجهل المركب معنى بالعرف العامي, وله معنى باصطلاح أهل الفكر, فالذي عند العامة أن كل جهل مُطْبِق مكثَّف جهل مركب, وذلك هو الجهل بالشيء من كل جهاته وجوانبه.. ومعناه عند أهل الفكر أنه الاعتقاد الفاسد, ويكون فاسداً لغياب العلم الصحيح المطابِق الواقعَ أو قيام التصور، أو الحكم غير المطابق؛ لهذا كان جهلاً مركباً.. وخلافه الجهل البسيط, وهو أن يَظهر جهله بالواقع, ولا يقدر على أن يقيم مكانه تمعلماً غير مطابق، أو لا يتعمَّد.. ويمثَّل أصحاب أصول الفقه لذلك في صدور كتبهم بمن استفتي وهو لا يعلم فقال: (لاأعلم)؛ فهذا هو الجهل البسيط، فإن أفتى بباطل وهو لا يعلم الحكم الصحيح فذلك الجهل المركب.
علمي معي: قال منصور الفقيه:
علمي معي حيث ما يَمَّمتُ أحمله
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي
بطني وعاء له لا بطن صندوق
أو كنت في السوق كان العلم في السوق
ذكره الإمام ابن عبدالبر في كتابه جامع بيان العلم وفضله 1/295، وأحال المحقق إلى الجامع للخطيب البغدادي الذي عزاهما إلى بشار بن برد.. وشعر الإمام ابن حزم في هذا المعنى - عند غَسْلِ هلافِيت ملوك الطوائف كُتْبه وحَرْقِها - أبلغُ وأَمْلأُ حرارة.
***
- أعمال القلوب: وردت نصوص شرعية صحيحة توحي بالإعفاء من بعض أعمال القلوب، كقوله صلى الله عليه وسلم: «عُفي عن أمتي ما حدثت به نفوسَها ما لم تتكلم به أو تعمل به»، ووردت نصوص صحيحة تدلُّ على المحاسبة بأعمال القلوب كقوله تعالى: {وَإن تُبْدوا ما في أنفُسِكُم أو تُخفُوهُ يُحَاسِبكُم به الله} (سورة البقرة/ 284).. ولا تعارض بين هذه النصوص ألبتة، بل كلها دالٌّ على مراد الله بلا تنافٍ؛ وذلك أن الآية أثبتت الحساب والمسؤولية، وأما الأحاديث فنفت الكتابة في بعض الأحوال.. والحساب والمسؤولية يكونان في الآخرة، وكتابة الأعمال تكون في الدنيا؛ فالحال مختلفة، والوقت مختلف؛ فلا مجال لدعوى التنافي مع اختلاف الأحوال.. كما أن الأحاديث نصٌّ على عدم الكتابة في بعض الأحوال، ونصت النصوص الأخرى على أن الله لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، وأن كل ذلك يُحصى في سجل الأعمال.. ونصوصُ الشرع واجبةُ التصديق كلُّها يُضم بعضُها إلى بعض ولا يُستنبط من بعضها دون بعض؛ فعلمنا أن كل شيء من أعمال القلوب مُسجَّل، وعلمنا أن الذي لا يُكتب في بعض الأحوال هو الإدانةُ فقط؛ فيُسَجَّل على العبد أنه همَّ بسيئة، ولكن لا يُسجل عليه جزاؤها بسيئة، وإنما يُسجل له عفو الله عنها.. هذا هو عمل الكرام الكتبة من الملائكة عليهم السلام في الدنيا بأمر ربهم؛ فإذا جاء يوم القيامة عُرضت صحائف الأعمال بما فيها من عفو أو إدانة؛ فَصَدَقَ بذلك مدلول قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ}. وفي نهاية الآية: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} (سورة البقرة/ 284).. والله جل جلاله في يوم القيامة يُحدث ما يشاء فيغفر لعبده برحمته، أو يقتص منه بعدله.. والعبد محاسب ومسؤول عن فؤاده بلا ريب لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (سورة الإسراء/36)؛ ومعنى المسؤولية أن يُسأل عن أعمال فؤاده، وأن تُسجَّل عليه أعمال فؤاده، وأن يُسجَّل عليه ما يؤاخذ به من عمل فؤاده، وأن يُسجَّل له ما عُفي له من عمل فؤاده؛ فصح بكلِّ ذلك أن عفوَ الله عن بعض أعمال القلوب بنصوص أخرى جزء من المسؤولية بالنصوص الأخرى.. ولا ينبغي أن نجعل أعمال القلوب عملاً واحداً؛ فنخلط بين ما عفا الله عنه في الدنيا، وبين ما لم يعفنه في الدنيا وأمر بتسجيله ليجازيَ عنه يوم القيامة بعدله أو يعفوَ عنه برحمته.. ووجدنا النصوص تقضي بالمحاسبة على أعمال القلوب بإجمال، ووجدنا استثناءاتٍ قليلةً في نصوص صحيحة؛ فوجب الوقوف عند النصوص، وأن لا نستثني أكثر مما استثناه النص؛ فهذا هو منهج أهل الفقه في الدين الذين يرفعهم الله درجات.. وبالنصوص الاستثنائية علمنا أن المعفوَّ عنه من أعمال القلوب ما لم يستقرَّ فيها؛ فتكونُ النيةُ عقيدةً ثابتةً من الخواطر وحديث النفس؛ فيدخل في ذلك الوسوسة.. وإذا استقر المحرَّم في القلب نية ثم أقلع عنه العبد فإننا ننظر: فإن كان عقيدةَ سوء فهي مسجلة عليه بإثمها؛ فإذا استبدلها بعقيدة حسنة فهي مسجلة له بأجرها.. ثم إن الحسنات يذهبن السيئات، والإسلام يَجُبُّ ما قبله.. وإن كانت نية فلم ينفذها لشاغل دنيوي، أو لتعذُّرها فهي مكتوبة عليه سيئة؛ فإن تركها لأجل ربه فهي مكتوبة له حسنة، ويدل على ذلك الحديث الصحيح في قول الرب تبارك وتعالى: إنما تركها من جرائي.. وبهذه المناسبة أحذر من كلمة درجت على ألسنة بعض طلبة العلم، وهي قولهم: (من العصمة أن لا تقدر)؛ فقد فهموها على عمومها، وأنك إذا لم تقدر على فعل المعصية فقد سقط عنك وزرُ الهمِّ بها!!.
قال أبو عبدالرحمن: لا والله ليس هذا هو معناها، ولا يهمنا أن نعرف معناها ما دامت ليست نصّْاً شرعياً، ولكننا احتساباً للأجر نُبَيِّن معناها؛ لأنها صارت حكمة سائرة، فنقول: من العصمة أن لا تقدر بأن سلمت من اقتراف ذنب تؤاخذ به؛ فاحمد الله على أن تلك المعصية لم تتيسر لك.. وليس معنى ذلك أن الله عصمك من وزر العزيمة على فعلها، بل وزر النية باقٍ بحسبه، وليس عليه وزر عملٍ لم يعمله بَعْدُ؛ لأن ربك لا يظلم عباده.
***
- كما قيل: قال الجاحظ في كتابه الحيوان 1/2: (وذلك كقولهم: من أحيا أرضاً مواتاً فهي له).
قال أبو عبدالرحمن: القائل هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو حديث تعرفه العجائز؛ فكان غريباً من الجاحظ مثل هذه الغفلة!!.
قال وديع البستاني في شرح رباعيات الخيام ص 117 عن انقسام الشعوب إلى 72 ملة: (قول جرى مثلاً في بلاد الفرس، وقد ذكر أحد شراح الحديث كلاماً مروياً عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) مآله: أن أمتي ستنقسم إلى ثلاث وسبعين ملة.. إلخ).
قال أبو عبدالرحمن: عجيب جداً أن يشغل هذا الحديث الشريف حيِّزاً كبيراً في المباحث الحديثية، وأن يؤلف المسلمون على ضوئه كتبهم في الفِرَق، ثم يقول البستاني: (ذكر أحد شراح الحديث).. ألاَ ما أسخف السطحية في مثل هذا؟!.. ثم إن الافتراق افتراق نِحْلة لا مِلة.
- بدايةُ الحنْفَشِيَّة: كان أبو بكر ابن الدهان النحوي حنبلياً، ثم شافعياً؛ لأنه يدرس في النظامية، وقد شرط الواقف أن يكون المدرِّس شافعياً.. فهو إذن من الحنافشة، وبداية هذا النحت لمحمد بن حمد بن خلف؛ فقد ذكر الذهبي: أنه تحنبل، ثم تحنف، ثم تشفع؛ فلُقب بحنفش.. انظر ميزان الاعتدال.
***
- إن من الشعر لحكمة: قال ابن سينا:
ما لي أرى حِكَمَ الأفعال ساقطةً
واسمع الدهرَ قولاً كلُّه حِكَمُ
قال عمارة اليمني:
إذا كان رأس المال عُمْرَكَ فاحترزْ
عليه من الإنفاق في غير واجب
ذكر أبو حيان التوحيدي في البصائر والذخائر 1/477 شعراً مُؤلماً لمن عصى الرحمن وأطاع الشيطان - وقد يُنيب بعد ذلك، وقد لا يرعوي:
وإذا مضى للمرء من أعوامه
ركدت عليه المخزيات وقلن قد
وإذا رأى الشيطان غُرَّة وجهه
خمسون وهو إلى النهج لم يجنحِ
ساعدتنا فأقم كذا لا تبرحِ
حيَّا وقد فدَّيتُ مَنْ لم يُفلِحِ
***
- لا يهلك على الله إلا هالك: قال الإمام أبو محمد علي ابن حزم رحمه الله تعالى في التلخيص لوجوه التخليص: (اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الله عز وجل ابتدأنا بمواهب خمس جليلة لا يهلك على الله بعدهن إلا هالك, وهي:
1- أنه تعالى غفر الصغائر باجتناب الكبائر؛ فلو أن امرأً وافى عرصة القيامة بملء الأرض صغائر إلا أنه لم يأت كبيرة, أو أتاها ثم تاب منها: لما طالبه الله بشيء منها.. قال الله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً} (سورة النساء/31).
2 - مَن أكثر من الكبائر, ثم منحه الله التوبة النصوح على حقها وشروطها قبل موته: فقد سقط عنه جميعها, ولا يؤاخذه ربه تعالى بشيء منها.. وهذا إجماع من الأمة.
3 - أن من عمل من الكبائر ما شاء الله, ثم مات مصراً عليها, ثم استوت حسناته وسيئاته لم يفضل له سيئة: مغفور له, غير مؤاخذ بشيء مما فعل.. قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (سورة هود/114)، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} سورة القارعة 6.
4- أنه تعالى جعل السيئة بمثلها, والحسنة بعشرة أمثالها, ويضاعف الله تعالى لمن شاء.
5- أنه تعالى جعل الابتداء على من أحاطت به خطيئته, وغلب شره على خيره بالعذاب والعقاب.. ثم نقله عنه بالشفاعة إلى الجنة فخلده فيها، ولم يجعل ابتداء جزائه على حسناته بالجنة, ثم ينقله منها إلى النار.
قال أبو محمد: فهل بعد ذلك الفضل منزلة؟.. نسأل الله أن لا يدخلنا في عداد من يعذبه بمنه.
***
الأب غير المباشر: أكتب (أبو عبدالرحمن ابن عقيل) بإثبات الألف؛ فيرغمني مصححو الجرائد على حذفها!!.. والقاعدة أن الألف تحذف قبل الأب المباشر، وتثبت قبل الأب غير المباشر مثل (عبدالله بن محمد ابن خميس)؛ لأن خميساً ليس أباً مباشراً لمحمد.. رحمنا الله جميعاً.
)) بوارِقُ الفأل: كلما ازداد قلقي وخوفي من هذا الواقع المرير في رقعتنا العربية الإسلامية بتكالُبِ الأمم علينا: ارتاحت نفسي، وأفرغ رَوْعي مخاوِفَه بأمور أشاهدها في هذه المملكة العربية السعودية قمينةٌ إن شاء الله بدفع البلاء، وآخرها - امتداداً لكونها مأوى المستضعفين المظلومين - احتضانُها البورميين، والتنفيس عليهم بمنحهم الإقامات؛ فأصبحوا جزءاً لا يتجزَّأ من الشعب السعودي.. أضف إلى ذلك منابع الخير في معاهد تعليم الشريعة، وتحفيظ القرآن، وعمارة المساجد ببذل سخيٍّ من الدولة والشعب.. هذا مع ذوي بقية قوامين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجماعات تقوم ثلث الليل الآخر في جوف الليل يبتهلون إلى الله بالدعاء لأنفسهم وأهلهم ودولتهم ووطنهم وأمتهم وعامة المسلمين؛ فلعلهم يكونون قدوة حسنة للغافلين.. والمسلم لا يحمل همَّ إجابة الرب الكريم؛ وإنما يحمل همَّ الغفلة عن الدعاء.. وكلما عمَّ الصلاح في سوداء الأمة امتدت بركته إلى صلاح القيادة، وكما تكونون يُوَلَّ عليكم، وواقع قيادتنا - مهما كان التقصير أو القصور الذي هو فوق القدرة - أنهم فروع مزهرة مثمرة من جذور مباركة ناصعة التاريخ في تعمير البلاد، وتزكية السلوك، وتنمية الإنسان، وإلى لقاء، والله المستعان، وعليه الاتكال.
- عفا الله عنه -