لقد درج الإعلام في أكثر من جهة عربية وغير عربية على تسمية ما حدث من حركات شعبية في عدد من الأقطار العربية بأنه ربيع عربي. أما كاتب هذه السطور فاكتفى بتسميتها هَبَّات شعبية.
وقد رأى -وما يزال يرى- أن تلك الهَبَّات لها جوانب إيجابية واضحة أبرزها التخلُّص من أنظمة فاسدة بينها ما كان استبداديًّا إضافة إلى فساده. وبينها ما كان مستخذياً لأعداء أُمَّتنا من الصهاينة بالذات إلى درجة تبعث على الاشمئزاز. على أن ثمار الهَبَّات المرجوة ما زالت غير مكتملة التَّحقق. بل إن منها ما هو واضح التَّعثُّر والتَّخبُّط.
وكنت قد نشرت مقالة عنوانها: “كل الفصول ربيع للصهاينة”؛ وذلك بتاريخ 17-8-1432هـ (18-7-2011م). ثم أعقبتها بمقالة أوضحت فيها لماذا كل الفصول ربيع لأولئك الصهاينة. ومما ذكرته في المقالتين أسباباً لوضع العنوانين المذكورين أن الإدارة الأمريكية لم تبق مُتمسِّكة بما أعلنته سابقاً عن معارضتها للتوسُّع الصهيوني الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلَّة عام 1967م؛ سواء ببناء مستعمرات جديدة أو بتوسيع ما كان موجوداً منها، وأنها لم تُدن -مُجرَّد إدانة- الجرائم التي ارتكبها الصهاينة ضد غزة وأهلها، والتي لم تسلم منها مؤسسة تابعة للأمم المتحدة هناك. بل إن رئيس وزراء الكيان الصهيوني المرتكب للجرائم البشعة، نتنياهو، حظي بحفاوة في الكونجرس الأمريكي لم يُعهَد أن حظي بمثلها أيُّ زعيم آخر مع أنه -إضافة إلى الجرائم المرتكبة ضد غزة- هو أكثر الزعماء الصهاينة حتى الآن تهويداً لفلسطين؛ وبخاصة مدينة القدس المشتملة على المسجد الأقصى.
ومما ذكرته في المقالتين، أيضاً، أن من الأَدلَّة على ازدهار ربيع الصهاينة انفصال جنوب السودان رسميًّا عن بقية ذلك البلد الكبير؛ وهو انفصال أَوَّل من رَحَّب به واعترف الكيان الصهيوني. وكانت تلك المبادرة مُتوقَّعة؛ إذ إن الكيان كان الداعم الأوَّل والأقوى للانفصاليين؛ تَخطيطاً وتَسليحاً وتَمويلاً.
وما حدث -ويحدث- في عدد من أقطار أُمَّتنا العربية، بعد كتابة المقالتين المشار إليهما، يُؤكِّد أكثر فأكثر أن ربيع الصهاينة هو الربيع المزدهر. كان تحطيم قوة العراق العسكرية، التي كانت الخطر الاستراتيجي الحقيقي على الكيان الصهيوني، عام 1991م، ثم إكمال تحطيم تلك القوة، عام 2003م، باحتلال المتصهينين الأمريكيين والبريطانيين للعراق، في طليعة الخدمات التي قَدَّمها المتصهينون للصهاينة. وما اتَّخذته الحكومة العراقية المُتكوِّنة في ظِلِّ ذلك الاحتلال؛ وبخاصة تلك المتصلة بما جرى -ويجري- في سوريا، يبرهن على أنها مُنفِّذة لأوامر الزعامة الإيرانية وهو -في الوقت نفسه- خدمة للكيان الصهيوني وإن ادَّعت تلك الزعامة أنها العدو الأشد لذلك الكيان. وإن مما يدعو للأسف والأسى أن يوجد بين كُتَّاب أُمَّتنا العربية ومُتعلِّميها من لا يزال يظن أن إدارة أمريكية يمكن أن تَتَّخذ خطوة، أو خطوات، ليس فيها مكاسب واضحة للكيان الصهيوني. فلقد سمع الكثيرون ما عَبَّر به أحد الحاضرين لخطاب الرئيس أوباما في جامعة القاهرة -في أثناء فترة رئاسته الأولى- بصوت عال: “أُحبُّك يا أوباما” مع أن ذلك الخطاب لم يشتمل حقيقة على إنصاف للقضية الفلسطينية؛ وبخاصة ما يتعلَّق بالقدس ودعوة اللاجئين.
ومما يُؤكِّد ازدياد ازدهار الربيع الصهيوني ما وصلت إليه الأوضاع في سوريا من تدمير وتقتيل لم يعد من اليسير تَّصوُّر تجاوز عواقبها الوخيمة. صحيح أن المسؤول عن ذلك -بالدرجة الأولى- هو النظام السوري المُتَّصف بأنه نظام تَسلُّط أسري استبدادي مرتبط ارتباطاً إيديولوجياً مع النظام الإيراني المعادي لأُمَّتنا العربية. لكن موقف الإدارة الأمريكية من ذلك موقف من صفاته النفاق الواضح. بل إن من بعض سماته مغايرته للحق والعدل؛ وذلك بِحثِّه الدول المقتدرة على عدم إرسال أسلحة إلى المنتفضين من السوريين المدافعين عن أنفسهم ومواطنيهم من بطش النظام السوري.
وما ذا عن ازدهار الربيع الصهيوني بالنسبة للقضية الفلسطينية المباشرة بالذات؟
بعد كتابة المقالتين المذكورتين ونشرهما حدث أن زار رئيس السلطة الفلسطينية بلدته التي نشأ فيها وتَربَّى؛ وهي في الأراضي المحتلة عام 1948م. وهناك قال: إنه موجود فيها للزيارة، لكن ليس له حق البقاء فيها. وفي هذا ما فيه من رضوخ للإرادة الصهيونية المنكرة لحق عودة الفلسطينيين إلى ديارهم المغتصبة. أما الرئيس الأمريكي، أوباما، فليس في موقفه ما يَدلُّ إلا على ازدياد انحيازه للكيان الصهيوني. ذلك أن أوضح ما بدر منه في زيارته الأخيرة لفلسطين المُحتلَّة هو تأكيده على ما يُريده الصهاينة من الاعتراف بيهودية دولتهم. وهذا يعني التمهيد؛ عاجلاً أو آجلاً، لطرد الفلسطينيين؛ سواء الذين في الأراضي المُحتلَّة عام 1948م، أو المُحتلَّة عام 1967م. وإذا كان في كل ما سبق ذكره أَدلَّة واضحة جَليَّة على ازدهار الربيع الصهيوني فإن من المرجو والمُؤمَّل عدم حدوث ما يزيد من تأكيد ذلك الازدهار.