طالما كنت أطرح أسئلة من هذا النوع؟ كيف يتم تحديد نمط اللباس في مؤسسة مهنية معينة؟ لماذا أصبحت معظم المناسبات النسائية مكلفة بدءا من ولادة طفل والتي مارستها نساء العالم منذ خلقت البشرية لكنها عندنا تعقدت وأصبحت مكلفة بل وقامت خلف دعم نمطها البذخي شركات كثيرة تقدم أنماطا عجيبة من الاستهلاك بدءا من تلبيس سرير الطفل مرورا بأنواع الشوكلاته والقهاوي ولباس النفاس... إلخ..
.. انتقالا إلى حفلات الأعراس التي صارت تكلف أكثر من مشوار الزوجين طوال حياتهم الزوجية كما ينفق المدعوون مبالغ ليست سهلة للوصول للتوقعات وإرضاء (المعايير الجمعية) في ذلك ويزداد الأمر تعقيدا كلما زادت القربى من العروسين بحيث يرتفع سقف التوقعات لما يلبس من ثياب وحلي تفرضه هذه النظرات التي تطوقك لحظة دخولك لقاعة الأفراح ثم نصل إلى اليومي المكلف: نمط اللباس في المؤسسات المهنية ودقة التركيز على نوع الحذاء والماركة والشنطة والساعة... إلخ، لكل موظفة وربط ذلك (بتحضرها) أو (قراوتها) أو أنها من طبقة بسيطة وعاجزة مقابل الغنية والمتنفذة.
أنا هنا لا أسخر أبدا مما أرى كما أنني كأكاديمية لا أقلل من هذه المعايير أو أهميتها لمن يعيشون في تلك الفضاءات وهم أنا وأنت وأختي وصديقتي وعمتي وكل الأخريات السعوديات من حولنا في المؤسسات الاجتماعية والعامة. إنني فقط أحاول أن أفهم كيف تشكلت هذه الأنماط والتوقعات التي (تثقل كاهلنا جميعا) فجاء كتاب الباحثة الفرنسية اميلي لورونارالعظيم في قيمته العلمية وتحليلاته السوسيولوجية (النساء والفضاءات العامة في المملكة العربية السعودية) ليقدم بعض التحليلات والتفسيرات للنمط الاستهلاكي للمرأة السعودية التي لم أفكر فيها أبدا قبل قراءة هذا السفر الجميل كما أن الكتابة التحليلية من منظور سوسيولوجي حولها محدودة في كل الأحوال. تقول الكاتبة:
بما أن النساء السعوديات لا ينزعن العباءة ولا الحجاب إلا في الفضاءات النسائية حصرا فإن الاهتمام الموجه لتقديم الذات هو أمر تشكله نظرات مثيلاتهن من النساء أكثر مما يرتبط بنظرة الرجال” إن فتح فضاءات جديدة للنساء والخاصة بهن فقط كنساء مثل أماكن التعليم والعمل والجمعيات والمؤسسات الدينية يجعل هؤلاء النساء عرضة لنظرات النساء الأخريات اللاتي يستطعن التقدير والحكم ويمكن أن تحمل نظراتهن على أنها لوامة أو معجبة. إن هذه النظرات هي ما يسبب التوافق مع معايير مجموعات الأقران وتقليد الآخرين وبعض المحاكاة. بحيث أن هذه الآداءات العلنية داخل هذه الفضاءات تسهم في تشكيل التوقعات المعيارية (لنسب التفاخر والاستهلاك والمظهرية) والتي تثقل اليوم كاهل السعوديات.
كيف تشكلت ملامح الأنثى السعودية الجديدة بنت المدينة وكيف ترى نفسها وما هي الصورة النمطية التي وضعت فيها؟
تقول الباحثة: ص 382 “في أثناء البحث قدمت لي عدة مستجوبات صورا أخذت لهن في وضعيات تشبه الممثلات الأمريكيات واللبنانيات: إن هذه الصور تعكس ضربا من العلاقة بالمظهر تريد الفتاة (المدينية) إظهار معطياته لصديقاتها ولي كباحثة وهو ما يؤشر بوضوح إلى الصورة التي تحاول السعوديات الشابات التماهي معها وإظهار أنفسهن عبرها”: امرأة ذات أنوثة “متطورة” “معاصرة” تلبس على وقع الموضة الغربية وعبر هذه الصور تتجسد صورة نمطية مشبعة بمظاهر الأنوثة، مطبوعة بالمبالغة وتوحيد الصفات وتبسيط سمات المرأة فالنساء أنيقات “بطبيعتهن” “رومانسيات” “عاطفيات” وهن يحببن بطبعهن القيام بالتبضع وإتباع الموضة!!
وتشير الباحثة هنا إلى أن هذا النمط الأنثوي الطقسي قد تم بناؤه والتشجيع على استهلاكه خلال الأربعين سنة الماضية لكن هذا لم يكن من نصيب السعودية فقط بل هو ظاهرة عامة تتمثل في تسويق للشعارات التجارية تم تطويرها في البلدان الغربية منذ الستينات وانتقلت إلى البلدان النامية بما يخدم مصالح الشركات العالمية لكن هذا التعريف للذات أتاح فرصا ونشاطات اقتصادية لعدد آخر من النساء باعتبارهن جزءا من الفضاء النسائي فقامت نشاطات اقتصادية موازية تديرها سعوديات مثل صالونات تصفيف الشعر والتجميل وأكشاك الإكسسوارات بل وحتى في داخل المراكز الجامعية يتم التشجيع على هذا النمط من الأنوثة الاستهلاكية عبر المهرجانات التي تسوق وتبيع هذه المنتجات الأنثوية والتي تقام هناك.
وبينما كانت النساء في السابق تتباهين بالذهب الذي يملكنه يتم التركيز اليوم عوضا عن ذلك على الماركات التجارية التي انتشرت في الرياض والمدن الكبرى وذلك كأسلوب لتقديم الذات والطبقة وأصبح الحصول عليها هو مبتغى معظم (المدينيات) التي يحاولن التماهي مع الصورة النمطية لفتاة عصرية تنتمي لأسرة حضرية وتحمل حقيبة من ماركة مشهورة وتغير ساعاتها موسميا حتى لو لم يتوافق ذلك مع دخلها الشهري أو دخل زوجها. هذا النمط من الاستهلاك أيضا أصبح لازمة للعمل الوظيفي حيث تنوعت استجابات المبحوثات مابين اضطرارهن للخضوع لمعايير مكان العمل في اللباس كواجب فيما قدمته أخريات كمتعة هذا رغم التنديد وكثرة الخطابات المناهضة للنزعة الاستهلاكية في الصحف السعودية إلا أن التسوق بقي لمعظمهن كهواية أساسية يقتلن بها وقتهن ويتمردن فيها على القيود المفروضة عليهن في الحركة والتجمع واتخاذ القرار وعلى الطابع الضيق للفضاءات المخصصة للنساء.
ألا يبدو ذلك مثيرا لأسئلة كثيرة مثلا: حول الأنماط الاستهلاكية التي وجدنا أنفسنا (ملزمين) (جمعيا) بطقوسها للتماهي مع التوقعات والنظرات من المحيطات وآخر كيف تم صنع النموذج (الأنثوي) الاستهلاكي مقارنة بدول عربية وإسلامية يكون فيها الاختلاط هو المعيار بما يدفع النساء إلى وضع الحجاب وبالتالي التحرر من (سطوة) التوقعات في اللبس والشعر والماكياج وخاصة في المواقع المهنية؟ ما موقف الخطاب الديني من هذا النموذج الأنثوي المطروح للفتيات المدينيات وهل يشجع عليه أم يقف ضده؟ أسئلة كثيرة لا يتوقف هذا الكتاب النشط عن إثارتها.
تخلص الباحثة في دراستها لنموذج الأنوثة الاستهلاكية بين السعوديات “ص434” إلى أن أصناف الأنوثة الاستهلاكية التي يتم إخراجها داخل الفضاءات المشتركة بين الفتيات المدينيات تظهر في: استهلاك مستحضرات التجميل واستعمال ماركات تجارية فاخرة (وخاصة الغربية منها)، الامتثال لأنماط من تقديم الذات تذكر بنجوم لبنانية أو غربية كما أن من ضرورات معايير (الأنثوية) بين القرينات إعطاء الانطباع بأننا أغنياء حتى لو لم نكن كذلك بالظهور بملابس وإكسسوارات فاخرة حتى لو كانت مقلدة بما يضطر العاملات لإنفاق جزء كبير من رواتبهن للبحث عن (الستايل) حتى لا يشعرن أنهن مقصيات!!