يعتقد كثير من الناس أن الجنادرية هي فقط ترنم شاد أو شعر شاعر، أو خطبة خطيب فحسب.. بل هي أعمق من ذلك بكثير فهي جهود الأجداد يقطفها الأبناء - فالجنادرية هي عبق الماضي، ذلك الماضي الذي سطر لنا فيه أجدادنا ملاحم الصبر على شظف العيش وقساوة الأيام وصروف الليالي، ففي هذا اليوم المجيد يجب والحالة هذه أن يقفز إلى أذهان الأبناء ملامح هذه البطولات، وأن نقف وقفة إعزاز وإكبار لأولئك الأجداد الذين زرعوا فحصدنا وسهروا فنمنا، وأصابهم الترح ففرحنا، أولئك الأجداد الذين كانوا يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله في النهار وإذا جن الليل عليهم صاروا عُبادا يرجون رب السماء، أولئك الأجداد الذين عاشوا عندما كانت لقمة العيش تعز عليهم في هذه البلاد، يوم كان لا يُسمع فيها إلا عواء ذئاب جائعة وفحيح أفاعي تجوب الأرض تحت أقدامهم، ومع هذا وذاك كافحوا وناضلوا من أجل توفير لقمة العيش لأبنائهم، ولمن يعولون (طيب الله ثرى تلك الأجساد التي ترقد بسلام عند بارئها) إننا اليوم نقطف ثمرة غراسهم وننال حصيلة كفاحهم، إنه في أعناقنا نحن الأبناء طوقا من المسؤولية تجاه مقدرات هذه البلاد المباركة التي أمطر الله علينا بخيرات السماء وفجر لنا بركات الأرض..كل هذا بسبب أن هؤلاء الأجداد رفعوا أكف الضراعة للمولى أن ينعم على هؤلاء الأبناء بنعمة الآمان وأن يسبغ عليهم نعمه ظاهره وباطنه..فما أجدرنا اليوم ونحن نتسلم هذه الأمانة أن نحافظ عليها.. إن أجدادنا كانوا بالأمس القريب يفترشون أديم الأرض ويتلحفون السماء ومع ذلك كله شكروا الإله، فالعبد إما شاكرا للنعم وإما صابرا على النقم. إننا اليوم نعيش في خضم هذا النعيم فما أحرانا بأن نُهل باسم المولى صباح مساء. إنه في هذا اليوم المجيد يجب أن نتذكر عناء الأجداد والتعب والنصب الذي كانوا يعايشونه، ومع ذلك كله كانت سجاياهم حميدة وأخلاقهم نبيلة، ومبادئهم سامية، فما أحرانا اليوم مع صفاء هذا العيش أن نلزم الصراط المستقيم وأن نحافظ على ثرى هذه البلاد جيلاً بعد جيل إلى أن يرث الله السموات والأرض ومن عليها.. إنه القادر على ذلك، إن هذه البلاد التي سلمها لنا الأجداد الذين أرووا صحراءها بالدماء والعرق والأرق لحري بنا أن نتكاتف وأن نكون لحمة واحدة وصفا واحدا وكلمة واحدة وراية واحدة من أجل أن تدوم علينا النعم. إننا في هذه البلاد التي باركها الله سوف نحلب أشطرها من لبن سائغ ونعمة هانئة وأمن وارف وعيشغيد -متى تدوم علينا هذه النعم يا ترى؟ إنها تدوم بشكر المنعم ليس إلا- والله إننا اليوم أصبحنا نتعطر بذلك العرق الذي سال على جباه الأجداد.. إن أيام الجنادرية تجرنا إلى ذلك الماضي الذي تعبق أيامه برائحة عرق الأجداد الذي كان عرقهم بالأمس بمثابة عطر للأبناء يتنسمون عبقه اليوم. إني حينما أمر على أطلال بيوت الأجداد فإني أستشف منها تلك القناعة وذلك الرضى بما قسمه الله لهم وأتذكر عبر ذلك أواصر الأخوة والمحبة التي سادت بينهم آنذاك.. إننا اليوم بحاجة ماسة لأن تسود بيننا هذه المعاني السامية وأن تتسرب إلينا معاني القناعة التي هي أساس السعادة وراحة القلب والضمير. وفي ذلك الزمن تجلت أروع معاني التكافل والتراحم في أجمل صورها رغم المصاعب والألم.. فغنيهم يتقاسم مع فقيرهم لقمة العيش، هذا هو العبق الذي مازلنا نتنسمه اليوم.. رحم الله أجدادنا وهدانا الله على السير على نهجهم.