يتساقط الأخيارُ ورقة إثر ورقة كما تتساقط أوراق الخريف حين يهزُّها الإعصار. يمضون هكذا دون استئذان، ودون أن نشعر أنهم مضوا فجأةً نجد مقاعدهم خاوية، ولم يبق إلا صدى ذكراهم الباقية.
- بقي الراحل على مدى عقود من الزمن فاعلاً، ومشرقاً ومتجدداً تزدان بحضوره المجالس وتزخر بذاكرته وقوة حافظته روائع الأدب والشعر وأخبار الأمم الدوارس.. إن روى في الأدب فله القدح المعلى، وإن روى عن الأحداث وأخبار الأمم كان المجلى.. بقي مؤثراً في فضاءات الثقافة العربية وديوانه (حصيد الزمن) خير دليل على عمق ثقافته وقوة شاعريته..
- كان -رحمه الله- مُفعماً بقضايا أمته ومقيماً في محراب اللغة العربية لا يتحدث إلا بها حتى ولو في حديثه إلى صحبه وذويه. فإذا ما هزَّه مشهد أو موقف كان يلبي فلا يبطئ.. كثيراً ما رأيته ملازماً لعلاَّمة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - وكان يأنس بحديثه ويراه مصدراً قوياً من مصادر التوثيق والنقل والمعرفة وكم كانت محبته ووفاؤه لشيخه كبيرين. وكنت دائماً ما أراه بحضرته. أو في مجالس معالي الشيخ راشد بن صالح بن خنين، مع مجموعة من الجيل الأول، الشيخ محمد البواردي، والشيخ محمد بن هليل وإلى جانب صحبته لهؤلاء -رحم الله- من انتقل منهم إلى الدار الآخرة ومد في عمر الأحياء، وختم الله بصالح الأعمال وعظيم الأجر والثواب إلى جانب ذلك نراه مع جيل الشباب من الطبقة المثقفة حاضر الذهن متقد القريحة يساجلهم ويسامرهم بأعذب الأشعار وأرق الأسمار في عفوية متدفقة عندما أهداني نسخة من ديوانه (حصيد الزمن) استعدت قراءته مرات ومرات. وتوقفت عند عنوان الديوان الذي اختاره، فقد كان - رحمه الله - من حصاد الزرع ذي الغلال وجمال القول وحلو البيان. فكل حديثه كان مُضمَّخاً بأريج الريحان وأنفاس العرار والأقحوان وديوانه يضوع بخزامى نجد وعيثرانه وشيحه.. درج على حصباء (يمامته) في محافظة (الخرج)، حيث كان ابن هذه البلدة الطيبة أرضاً وناساً.. وكانت (اليمامة) تعني له مجد الشعر وروضة الشعراء وملتقاهم في الجاهلية والإسلام فكان دائم التحدث بمفاتنها وربوعها وأهلها.
ألم يكف أنه تخرج من مدرسة الشيخ العلاّمة عبدالعزيز بن باز، حين كان قاضياً في مدينة (الدلم) قاعدة (الخرج) وأهم مدنها!؟
- وفي الشعر يخاطب الوجدان بأبهى حلله وصوره ومناخاته الوارفة.
لهف نفسي وكم تريدُ القوافي
بهجةَ النفس والهمومَ علياً
أعذُريني فما الزمانُ براضٍ
وحبالي تقطعَّت في يدَّيا
وبحارُ الحياة تلطم صَرْحي
وبراقُ النجاة ليس لدَّيا
يا ربى الأهل والسلام خديني
وأريحي من خطوتي قدميَّا
لغة تستقي من نضارة الماضي وعفوية الراهن بمرارته وأحداثه الدامية لغة ترتقي بشاعرها فوق خضم الراهن القائم الحزين.
* شاعر أعطى للكلمة حقها، وللقصيدة رحيق قلمه، وللشعر نكهته الوارفة.. رجل صادق في شعره، ووجدانه وتوجهه الوطني.
* وختاماً لم يبق إلا أن ندعو للفقيد الغالي بأن يشمله المولى عزَّ وجلَّ برحمته وأن يسكنه منازل الأبرار عنده، وأن يجعل الخير كل الخير في عقبه من بعده جزاء ما قدم لدينه وأمته.
يهزأُ الموتُ بالبرايا ولكنْ
ليس للموتِ من سبيلٍ لشاعر
للتراب التراب، والخيرُ يبقى
دائمَ الذكر كابراً بعد كابر
خالد محمد الخنين - الرياض