صحيح.. كثيرون منّا كتبوا عن صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير دفاعنا، وحامي عريننا، الفارس المغوار، والقائد الهمام، والأمير الإنسان، الذي تناطح همته الثريا، ولا تحد طموحه لنا ولبلادنا وأمتنا حدود.
وأكثر من أولئك ما زالوا يكتبون اليوم عنه، فيتحفوننا من حين لآخر بشيء من مناقب سموه الكريم العديدة، كما أكد سعادة الدكتور أسامة بن عبد المجيد شبكشي، سفير خادم الحرمين الشريفين بجمهورية ألمانيا، في مقاله عن وفاء فارسنا الهمام سلمان، الذي نُشر بجريدة الجزيرة الأربعاء 8 من جمادى الأولى 1434هـ، الموافق 20 من مارس 2013م، العدد 14783.
والحق يُقال: أثار فيَّ مقال الدكتور شبكشي، مشاعر جياشة، كامنة في النفس تجاه هذا الرجل الذي نعده من أعظم نِعم الله سبحانه وتعالى علينا، وهي كثيرة، ولهذا نتنافس في حبه وتأكيد الوفاء والإخلاص لسموه الكريم، ومن ثمّ الولاء لهذه الرسالة المباركة في خدمة الدعوة العظيمة، التي شرف الله آل سعود وآل هذه البلاد الطيبة الطاهرة بحملها.
وإذ أؤيد ما ذهب إليه الدكتور شبكشي في مقاله المذكور، أؤكد أن مناقب سلمان ليست عديدة فحسب، بل لا تُعد ولا تحصى، وصحيح أن سلمان (دوحة إحسان) كما أكد الأديب الشاعر عبد العزيز بن عبد الله الرويس، يرحمه الله، الذي انتقل إلى جوار ربه يوم الخميس 2-5-1434هـ الموافق 14-3-2013م، في رثائه للراحل صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن سلمان بن عبد العزيز - طيَّب الله ثراه - مخاطباً سلمان:
نعزي دوحة الإحسان فينا
وعارضنا يقول لنا أطيلوا
غير أن الوفاء يظل أشهر صفة عرفها الجميع عن سموه الكريم، حتى صار قرين اسمه، فلا يُذكر أحدهما إلا يُذكر الآخر، وإذا كانت العرب من قديم قد دأبت على ضرب المثل في الوفاء بالشاعر الجاهلي (السموأل) صاحب الحصان المعروف بـ(الأبلق) لأنه ضحّى بابنه في سبيل الحفاظ على وديعة لامرئ القيس، في قصة مشهورة، فتقول للإنسان الوفي: فلان أوفى من السموأل، إذا كان الحال كذلك، فيُؤكد كاتب هذا أن سلمان ليس أوفى من السموأل فحسب، بل أوفى من الوفاء ذاته، فلا غرو إذن إن وصف الراحل الكبير سلطان الخير، سلمان وصفاً صار عندنا اليوم مضرب مثل، كمثل السموأل بين سائر العرب: (سمو الوفاء.. وفاء السمو).
أربع صور شاهدة
والحقيقة، المواقف والمشاهد التي تُؤكد أن سلمان أوفى من الوفاء نفسه، لا تعد ولا تحصى، كما أوردت آنفاً، وقد تحدث عنها كثيرون ممن عاصروا الرجل وعملوا معه عن قرب، أو ممن أغاثهم سلمان، بعد الله تعالى، في أحلك الظروف، ففرحوا بعد حزن، كما يؤكد الرويس في قصيدته التي أشرت إليها سابقاً، مخاطباً سموه الكريم:
وكم أفرحت من يأتي حزيناً
لك الأفعال إذ قوم تقول
فدم للنائبات بكل ساح
يد تعطي وأخرى كم تصول
ووجه بشاشة يجلو هموماً
وأنت النهر للعطشى يسيل
لكنني، رأيت اليوم أن أستعيد مع القارئ الكريم أربع صور فقط، من مشاهد عديدة سوف تظل راسخة في الذاكرة السعودية إلى الأبد، تُؤكد للأجيال القادمة صحة مقولتي هذه.. فمع كثرة مشاغله كرجل دولة يضطلع بمسؤوليات جسام، وأب مسؤول عن عائلة كبيرة ممتدة بحجم هذا الوطن، يرى أن من واجبه الإسهام في سعادتها وتحقيق أمنها ورخائها وضمان استقرارها، ومع اهتماماته الشخصية كإنسان يعرف قيمة الحياة ومعنى البذل والعطاء، مع هذا كله، لم ينس سلمان واجبه الإنساني تجاه إخوته في أحلك الظروف وأصعب اللحظات، حتى إن اضطره الأمر للتضحية بأغلى ما يملكه الإنسان، وهو الصحة التي لا تستقيم حياة بدونها.
الصورة الأولى
وثّقتها آلات التصوير الإعلامي العالمي والإقليمي والمحلي في مطار قاعدة الرياض الجوية مساء الاثنين 26-11-1432هـ الموافق 24-10-2011م، يوم كان سلمان إلى جانب أخيه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، يحفظهما الله، في استقبال جثمان فقيد الوطن والأمتين والعالم أجمع، سلطان الخير، إثر عودته من أمريكا، حيث كان يستشفي فوافاه الأجل المحتوم.
كان الحزن يومها يعتصر قلب سلمان، وكانت ملامح وجهه الكريم تظهر بوضوح هول الفاجعة، ومدى ما يشعر به سموه من أسى وألم لفراق رجل على مثله تبكي البواكي، فكان حزننا نحن مضاعفاً: مرة على رحيل أب عطوف، وقائد همام، ويد طويلة ممتدة بالخير، ليس هنا فحسب، بل في كل أصقاع الدنيا، ومرة لما ارتسم على محيا سلمان من حزن، فحزنت معنا حتى جبال الوطن الراسيات، لحزن رجل كبير عهدته وفياً لثرى الوطن، ومرة أخرى أستشهد بما أورده الأديب الرويس، في قصيدته تلك، مخاطباً سموه الكريم:
نواسي للذي واسى ألوفاً
وأرسى الصبر في من قد أهيلوا
لحزنك طأطأت رضوى ذراها
وأعلنت الحداد له الدخول
الصورة الثانية
يتعلق المشهد الثاني بالحدث الجلل نفسه، رحيل سلطان فقيد الخير، ومرة أخرى يتسابق الإعلام في اليوم التالي: الثلاثاء 27-11-1432هـ الموافق 25-10-2011م، لتوثيقها فيبدو سلمان حاملاً على كتفه الكريم نعش شقيقه الأكبر سلطان، في لحظة وفاء تعجز اللسان، مع أننا كنا ندرك جيداً أنه أجرى عملية جراحية للتو بسبب الإصابة بانزلاق غضروفي، ومعلوم أن أول ما ينصح به الأطباء مريض الغضروف، ألا يحمل شيئاً مهما خف.. لكنه الوفاء يأبى عليه إلا أن يكون هو هو، مهما كانت الصعاب والمخاطر، ومرة أرخى أيضاً تتفطر قلوبنا لما ارتسم على محيا سلمان من حزن، فتطأطئ معنا رضوى ذراها، وتعلن كل المدن والقرى والهجر على امتداد الوطن الحبيب الحداد على فراق سلطان وحزن سلمان.
الصورة الثالثة
كانت آلات الإعلام أيضاً حاضرة لتوثيقها في ذاكرتنا بعد مضي ثمانية أشهر فقط تقريباً على الصورتين السابقتين، وقد كانت مفجعة حقاً، مثلهما تماماً، بل قل أكثر منهما فجيعة لأنها أضافت جرحاً جديداً لجرح لم يكن قد اندمل بعد، كان ذلك يوم الأحد 27-3-1433هـ الموافق 17-6-2012م، في مطار الملك عبد العزيز بجدة، يوم استقبلنا جثمان فقيد الأمن والخير والاستقرار نايف النايف، قادماً من جنيف، حيث وافاه الأجل المحتوم، يوم أبكى حزن سلمان طويق والسروات، وكل جبال الوطن الراسيات، لقد كان حزنه مضاعفاً، إذ هوى قبل شهور قليلة ركن مكين من أركان الدولة، واليوم يودع ركناً آخر، طالما امتد بالخير لكل الناس، وحفظ الأمن وضمن الاستقرار بإذن الله.
ولن أنسى أبداً أن أخيه صاحب السمو الملكي الأمير سطام بن عبد العزيز يرحمه الله (صاحب الصورة الرابعة) كان إلى جانبه، يواسي نفسه الكريمة، ويخفف من وطأة حزنه، لأنه أعرف الناس برقة مشاعره، وعاطفته الجياشة تجاه إخوة أشاوس، طالما صانوا عهد عبد العزيز وساروا على نهجه في حفظ البلاد ورعاية مصالح العباد.
الصورة الرابعة
أما هذا المشهد الأخير، فقد أدهش حتى آلات التصوير نفسها، إذ فُوجئت بسموه الكريم يحفظه الله يوم الخميس 4-4-1434هـ الموافق 14-2-2013م، داخل سيارة إسعاف مرافقاً جثمان أخيه الأمير سطام يرحمه الله، دون سابق ترتيب، من جامع الإمام تركي بن عبد الله، حيث صُلي على الفقيد، حتى مطار القاعدة الجوية، ومن ثم رافقه لمواراته الثرى في مكة المكرمة، حسب وصية فقيدنا الغالي.
ومع أن الحديث هنا للصور، إلا أنه ثمة موقف مشحون بالعاطفة مؤكداً وفاء هذا الرجل وإخلاصه، ذلك هو شهادة الشيخ عمر بن عثمان العثمان الذي غسل الفقيد سطام وكفّنه، إذ يقول عن سلمان: (إن سمو ولي العهد يحفظه الله وكعادته وفياً مع إخوته أبناء الملك المؤسس، يقف معهم دوماً في كافة الظروف، خاصة حال المرض ونحوه، حينما هممنا بالذهاب إلى المطار، جاء مسرعاً، وركب سيارة الإسعاف في مكان الراكب الأمامي، الذي كنت أجلس فيه أنا حينما جئنا بالجثمان إلى المسجد، وكان (مشلحي) في المرتبة نفسها، وحينما شاهدني ورأى أن في المكان مشلحاً، استأذن فقلت: يا والدي أنت الأولى، فكان شعوراً عفوياً أخوياً منه، حفظه الله، وكان طيلة الاتجاه إلى المطار وهو يدعو له ويذكر أن ذلك واجب عليه تجاه إخوانه وهو ما عوّدهم عليه الملك المؤسس ويُواسي أبناء الفقيد الذين كانوا معنا في سيارة الإسعاف).
والحقيقة، وفاء سلمان ماثل للعيان في كل آن، وليس في حاجة لشهادة أحدنا، غير أن هذا الموقف يهز الوجدان، لأنه مشحون بعاطفة جياشة، صادقة، من قلب كبير عامر بالحب والإيمان.
عادة راسخة
ليس ثمة شك أن الوفاء صفة متجذرة في نفس قادة آل سعود، ورثها المؤسس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل عن آبائه وأسلافه الكرام، ومن ثم حرص على توريثها لأبنائه البررة، فصانوا العهد وحفظوا الأمانة.
فحياة عبد العزيز طيب الله ثراه، كانت تقوم على الوفاء في كل حركاته وسكناته، ولهذا يصعب، بل قل يستحيل حصر المواقف التي تشهد بتجذر صفة الوفاء في نفس المؤسس الكبير، ويكفي فقط أن أشير هنا إشارة عابرة لما أورده كل من كتب عن وفائه، إذ وصف محمد أسد، صاحب كتاب الطريق إلى مكة تلك اللحظة المشحونة بالحزن، عندما بلغ الملك عبد العزيز، وقد كان بمكة يومئذ خبر وفاة والده الإمام عبد الرحمن يرحمهما الله، وهو وصف يتفطر القلب له حزناً، لحزن رجل كبير بقامة عبد العزيز، كما تحدث المؤلف عن وفاء عبد العزيز لأهل بيته وأبنائه، مؤكداً أنه كان يكتب إليهم حتى وهو في صدر المعارك، تحت ظلال السيوف وبين أسنة الرماح مستطلعاً أخبارهم.
من جهة أخرى، يؤكد الزركلي في كتابه (شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز) أن المؤسس جعل مَنْ ناصبوه العداء ذات يوم، من خاصته وأقرب الناس إليه، بل يحرسونه عند رأسه ويسهرون على راحته، فأي وفاء أعظم من هذا.
وثمة موقف أورده الأستاذ عبد الرحمن الرويشد في كتابه عن الأمير محمد بن عبد العزيز يبدو للوهلة الأولى عابراً، غير أنني أرى أنه عظيم الدلالة، إذ يُؤكد المؤلف في معرض حديثه عن استسلام جدة قائلًا: (... وقد قام الحاج عبد الله رضا بتسليم مفاتيح جدة، رسمياً إلى السلطان عبد العزيز، ثم قدَّم استقالته كقائمقام جدة، وقال للسلطان: إن مهمتي قد انتهت، لكن السلطان رد عليه: إن مهمتك قد بدأت الآن، وأعاده إلى منصبه السابق) إلى غير ذلك من وفاء عبد العزيز الذي هو ديدن حياته كلها.
ومن «الكندرة» حيث استسلمت جدة للمؤسس، أقفز مباشرة قبل أن أختم إلى ما نعيشه اليوم في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود يحفظه الله من ملحمة وفاء منقطعة النظير، أدهشت العالم أجمع، وأخجلت حتى الوفاء نفسه، لما بذله هذا القائد الكبير من جهد جبار في خدمة عقيدته ووطنه وشعبه، ومساهمته في إرساء السلم في العالم كله، من خلال منابر الحوار ومنتدياته التي تبناها ورعاها يحفظه الله ودعوته للوسطية والاعتدال.
وأكتفي هنا بلحظة واحدة، سوف تظل عصية على النسيان إلى الأبد، وربما تختزل كل ما يود أحدنا في مثل هذا الموقف، تذكرنا بعظيم نِعم الله أن منّ علينا بقائد كبير مثل عبد الله بن عبد العزيز، فأعود بكم إلى يوم اتّشح فيه الوطن بالحزن، وهو يُودع سلطان الخير إلى مثواه الأخير، حيث صُلّي عليه في جامع الإمام تركي بن عبد الله بالرياض يوم الثلاثاء 27-11-1432هـ الموافق 25-10-2011، وكان والدنا القائد الكبير عبد الله بن عبد العزيز كعادته دائماً، في مقدمة المشيّعين إذ رفض نصائح الأطباء رغم ظروفه الصحية، فاستقبل جثمان توأم روحه وصلى عليه وودّعه الوداع الأخير، وأترك وصف هذا المشهد المهيب هنا لصاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن عبد العزيز آل سعود، أحد أركان هذا الوطن المنيعة، إذ صرح للإعلام يومها قائلاً: (... إن خادم الحرمين الشريفين، حفظه الله، رغم النصائح الطبية بأنه يجب ألا يخرج من المستشفى أو يخرج من قصره، إلا أن هذا الوفاء منه حفظه الله كلّفه وخرج شخصياً لاستقبال شقيقه الفقيد رحمه الله مخالفاً قاعدة الأطباء ونصائحهم).
وبعد
مثلما كتب كثيرون عن سلمان القائد الوفي، الذي عهدناه أوفى من الوفاء، ومثلما يكتب كثيرون عنه اليوم نثراً وشعراً، سوف تظل الأجيال القادمة تكتب عنه إلى أن ينفد مداد أقلامها، دون أن توفي هذا الرجل الوفي الكبير حقه علينا.
فالحمد لله رب العالمين أن جعل لنا بلداً طيباً مباركاً، وشرّفه ببيته ومثوى نبيه، وجعل أفئدة الناس تهوي إليه من كل فج عميق، وجعل إدارة دفته في قادة مؤمنين مخلصين صادقين، أوفياء أمناء، يفنون حياتهم الغالية من أجل عزته وكرامة أهله، دون أن ينسوا دورهم الريادي في رعاية مصالح الأمة وسعادة البشرية، حيثما كانت لأنهم جُبلوا على الخير والوفاء.