للكاتب رونالد كريلينستن كتابٌ قيم عن «مكافحة الإرهاب»، وهو مكتوب بطريقة واقعية وإستراتيجية صالح للاعتماد كمرجع أصيل في هذا الباب، فالإرهاب هو من أكثر القضايا التي تُواجه الحكومات الوطنية والمجتمع
الدولي إشكالية في القرن الحادي والعشرين.. ولكن كيف يُمكن مكافحة الإرهاب في عالم ما زالت تُهيمن فيه الدولة الوطنية على الحكومة؟.. وهل أصبحنا نشهد أنواعاً جديدة من النشاط الإرهابي في أعقاب 11 سبتمبر؟.. وهل ما زالت مقاربات ما قبل 11 سبتمبر صحيحة؟.. وكيف نستطيع محاربة التهديدات المتنوعة ذات الأصول المتعددة ونسيطر عليها؟.. ومن الذي ينبغي أن يكون مسؤولاً عن مكافحة الإرهاب، وفي أي ظروف؟
لكي نفهم الإرهاب فهماً تاماً وكيفية نشوئه وتطوره في مجتمع من المجتمعات، فإن من المهم تحليل ما تتبناه الجماعات الإرهابية من أهداف، وتكتيكات، ودوافع، وأساليب عمل.. وفي هذه تكمُن أدوات الاستفهام المقترنة بالإرهاب، وتلكم هي: مَنْ؟ وماذا؟ ولماذا؟ وكيف؟ ومن المهم أيضاً إلقاء نظرة على ما تتفاعل معه الجماعة الإرهابية من الناس، والجماعات والمجتمعات، والمؤسسات - سواء كانت شبه قومية، أو قومية، أو دولية أو عابرة للقوميات.. فهذا التفاعل يُشكّل أحد جوانب السياق الأوسع نطاقاً الذي تُمارس فيها جماعات كهذه عملياتها.. ويبدو لِزاماً أيضاً البحث، كما يفعل ويكتب رونالد كريلينستن في هذا الكتاب، فيما كان يفعله أعضاء الجماعة قبل دخولهم ميدان الإرهاب، وفي طبيعة المناخ الاجتماعي والسياسي الذي كان سائداً وقتئذٍ، وفي نوع تدابير السيطرة التي اتخذت للتعامل مع الاحتجاج الاجتماعي والسياسي في ذلك الوقت.. وهذا هو البعد الزمني للسياق الأوسع الذي تعمل داخله أي جماعة إرهابية.. وبمعنى آخر، ينبغي هنا أيضاً تحليل الخلفيتين المكانية والزمانية لأي نشاط إرهابي كي نفهم السياق الذي تبرز منه أي جماعة إرهابية وتعمل داخله.. إن أحد جوانب هذه الخلفية المكانية والزمانية يتمثَّل في مجموعة الإجراءات المؤسسية التي اتخذت رداً على نشاطات اجتماعية وسياسية، سواء السابقة منها أو المستمرة، بما في ذلك أعمال العنف بمختلف أنماطه، كالإرهاب وهو المنحى الذي يسير فيه الكاتب.
إن الخطر الذي يُشكّله الإرهاب بالنسبة للقيم، ونمط الحياة الذي تتيحه، لا ينبع فقط من التهديدات وأعمال العنف الإرهابية، ومن مواطن الضعف التي يستغلها الإرهابيون، بل ينبع كذلك من الطرق التي تتبعها المجتمعات ذات الصلة في تكوين أفكارها حيالها والتحدث عنها والاستعداد لها والرد عليها، وفي التّعافي من آثارها.. وهناك من بين المحللين المختصين من ذهب إلى حدّ الإيحاء بأن الخطر الذي تُشكّله «الحرب على الإرهاب»، التي تزعمها الولايات المتحدة والأمريكية، أعظم من ذاك الذي يثيره الإرهاب الذي شنّت هذه الحرب لمحاربته.. ويأتي هذا التأكيد المثير للدهشة ليسلط الضوء على حقيقة مفادها أن الخطاب والفعل يرتبط كل منهما بالآخر ارتباطاً وثيقاً.
فالطريقة التي يتباحث الناس من خلالها، أي المشاكل التي تواجههم، وتؤطرها وتصوغ مفاهيمها حولها، غالباً ما تحدد نوعية التدابير التي تتخذها حيالها.. وفي المقابل، فإن السبل التي ينتهجها الناس في معالجة مشاكل كهذه يُمكن في أكثر الأحيان أن تحد من قدراتها على فهمها، وتقيّد خيالها وتضيّق خياراتها.. وهذه المصافي المفاهيمية والأيديولوجية يمكن أن تزيد من صعوبة فهم المشكلة بكل جوانبها.
وعلى سبيل المثال، فمنذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، و»الحرب على الإرهاب» التي تلتها، صار يُنظر إلى مكافحة الإرهاب بشكل رئيس عبر منظور عسكري، وهو ما أفضى إلى نشوب مناظرات حول القواعد الأساسية للحياة الديمقراطية ذاتها، بحكم ارتباطها بطبيعة التهديد الإرهابي وطرق التعامل معه. ومتى ما عبَّر منتقدو هذه المقاربة، الداعية إلى عسكرة عمليات مكافحة الإرهاب، عن هواجسهم ومخاوفهم في ما يتعلق بمبدأ حكم القانون وحماية حقوق الإنسان، فإنهم كثيراً ما يُواجهون بالتوبيخ والازدراء بدعوى أنهم ما برحوا «يعيشون عقلية 10 سبتمبر» (أي ما قبل الهجمات)، وغالباً ما يقترن هذا بمقولة إنهم «ببساطة لم يستوعبوا ما حدث».
صحيح أن خطط مكافحة الإرهاب كانت قبل 11 سبتمبر تحرص على تعزيز مبدأ حكم القانون، إلا أنها في هذا الخصوص شددت أيضاً، إلى جانب ذلك، على التعاون الدولي، وتناغم السياسات عبر مجالات السلطات القضائية المحلية والدولية، وحكم القانون بالفعل، واحترام حقوق الإنسان، وإعطاء الأسبقية لفرض القانون على الخيار العسكري.. وكان الأخير دائماً ضمن وسائل مكافحة الإرهاب، ولكنه كان عادة عبارة عن ملاذ أخير، ويقع، في حالة مساعدة السلطة المدنية، تحت سيطرة السلطات المدنية.. واستخدام القوة العسكرية غالباً ما كان أداة الملاذ الأخير في حالات احتجاز الرهائن التي يطول أمدها، على سبيل المثال.. ولم يكن القانون الإنساني الدولي، بما في ذلك اتفاقيات جنيف، يُشكّل في العادة ركناً من أركان الخطاب المتداول، وذلك نظراً إلى أن أنموذج الحرب الذي لم يكن هو المعيار الأساس في خطط مكافحة الإرهاب.. وحين كان هذا القانون يُطرح على طاولة النقاش، فقد كان هذا في الغالب يحدث في سياق استبعاده صراحة، نظراً لانقطاع صلته بهذه الخطط.. ومنذ 11 سبتمبر، خضع القانون الإنساني الدولي، وبشكل متزايد، لتمحيص وبحث دقيقين، بما أن منتقدي «الحرب على الإرهاب» كانوا يسعون لتطوير إطار قانوني لمقاربة عسكرية في الأصل لمكافحة الإرهاب. حقيقة، كان «يُوجد فعلاً» خلال ثمانينيات القرن العشرين، وبخاصة في سنوات إدارة رونالد ريجان، ما يُبشر «بتفكير 12 سبتمبر»، وساد هذا الوضع أحياناً.. وفي القصف الأمريكي لليبيا عام 1986 خير شاهد على ذلك.. وعلى أية حال، فإن الجانب العسكري لعملية القصف هذه كان محدوداً في نطاقه، وكان في الأغلب يُشكّل جزءاً من مقاربة شاملة تقوم على تبني مقاربة «متشددة» وكانت السمة العامة لهذا الخطاب المبكر - على سبيل المثال - قد تمثَّلت في الإصرار على عدم التفاوض مع الإرهابيين تحت أي ظرف كان.
وعلى الرغم من «عسكرة» الخطاب والممارسة اللذين اقترنا بـ «الحرب على الإرهاب» في حقبة ما بعد 11 سبتمبر، فإن تدابير مكافحة الإرهاب يُمكن أن تتخذ في الواقع أشكالاً عدة.. وفي هذا الخصوص، فإن ظاهرة الاستقطاب القائمة بين «تفكير 12 سبتمبر» و «تفكير 10 سبتمبر» هي تمثيل مختصر للانقسام الأيديولوجي الذي يُميز الكثير من المناقشات المعاصرة لمكافحة الإرهاب.. وهذه المناظرة الأيديولوجية المستمرة تُشكّل نوعاً من الخلفية لأية محاولة يُراد بها فهم التعقيدات والتحديات التي تواجهها مكافحة الإرهاب في عالم اليوم.. فكل طرف يُسلط الضوء على نقاط القوة في المقاربة المفضلة لديه، بينما يُشدد على مكامن ضعف الطرف الآخر، الأمر الذي من شأنه أن يُولِّد خلفية من التشويش - نوع من «الضجة البيضاء» white noise، بمعنى إشارة عشوائية - لكل من يسعى إلى فهم مكافحة الإرهاب، وصياغة سياسة في هذا المجال المهم.. وبينما يُركز البعض اهتمامه على «مزهرية» مكافحة الإرهاب، فإن عين العقل فيه تصبح مدركة لطبيعة الخطاب الاستقطابي في خلفية الصورة.. ويتحول هذا إلى مركز الاهتمام لبعض الوقت، ولكن «المزهرية» تعود من جديد لتأخذ مكانه، فيما يُواصل المرءُ محاولاته لفهم الصورة كاملة. إن الكثير من الافتراضات عن الموضوعات التي يتناولها الناس بالدراسة ليست واعية حقيقة، رغم أنها تُشكّل الطريقة التي يتحدث بها الناس عن هذه الموضوعات ويحددونها، ويضفون عليها المفاهيمية.