ليس إعجابي بالشاعر العامي عبدالله الدويرج رحمه الله تعالى أنه جَدٌّ لبنتين من بناتي - فهذه مَحَبَّة برٍّ وصِلَة -، ولكنَّ سرَّ إعجابي أنه أبدع ألحاناً لذيذة على الرغم من فطريته وقَرَوِيته، وساعده على ذلك عذوبة صوته وطول نفسه..
وطالما دعوتُ شعراء التراث وشعراء الحداثة إلى إبداع قصائد مضبوطة اللحن والنغمات الثابتة خلال اللحن نفسه على غرار إبداع ابن شريم والدويرج.. وقبلهما شعراء الرَّدِّ في أطراف الحجاز وعالية نجد، وقد تعنُّ مناسبة لإتحافكم ببعض ألحانه.. وابن دويرج رحمه الله ليس شاعرَ ردٍّ في الملعبة، ولكنه يُجيد المعارَضة بأناة، ويُبْدِع ما يعمر الملعبة.. إن ابن دويرج مِمَّن طوَّر الألحان وعَسَّرها وأطالها تعجيزاً أنتج الإبداع اللحني لحلاوة صوته، وطول نفسه؛ فنشأ عن ذلك ألحان طرية.. وابن دويرج ولَّد ألحاناً مما سمعه من ألحان الملعبة، ولكنه ظل مشدوداً بألحان البادية الحجازية، وأقصى العالية، ولا سيما لحن الشيابين.. ولقد سمعت بعض ما أجهله من هذه الألحان بصوت الشاعر أحمد الناصر؛ فكانت شجية آسرة؛ ولكثرة ما يُحفظ لابن دويرج وابن شريم من القصائد على تلك الأوزان، ولقدم عمرها: فمن المؤكد عندي أنهما هما اللذان نقلا الألحان الطويلة من بادية الشيابين وحرب وبني سليم وملاعب الرد في بادية الحجاز، وعنهما أخذ بعض شعراء البواريد وغيرهم، ثم تميَّز ببعض تلك الأدوار عبدالله اللويحان وأحمد الناصر؛ لحلاوة صوتيهما.. على أن أحمد الناصر ابتكر بعض الألحان.
قال أبو عبدالرحمن: ولعدم تحمُّلِ أعمدة الجريدة الأسطر الطويلة، فقد أضطر إلى توزيع الشطر الواحد في سطرين أو ثلاثة بوقفات نغمية؛ فإذا انتهى الشطر ختمته بنقطة واحدة، وأما الوقفات النغمية فأجعل بينها نقطتين، وإذا لم يتم النغم أهملت النَّقْط؛ فمن أدواره اللحنية قصيدته التي منها:
[اللهْ يِعَنِّيكِ (الوقفة عند الياء الساكنة)
يا غِرْوٍ..
تعرَّضْ ليْ..
ضَحَى العيد.]
والشطر الثاني (عليهِ من كلِّ شكلٍ يستوي للزين غالي)، وقد نسج على منوالها لويحان قصيدة قافيَّة (اللهْ يعنِّيكِ يا غروٍ نطحني بايمن السوق)، وقد اشتهر لها لحنان.. ولقد فخُر ابن دويرج بتجديده في الألحان بقوله:
[يقول اللي.. طواريقه كما..
الدانات مغلوقة.
يِقَطِّفْ من.. نواوير الزَّهر..
زينات الأنواع.]
وقد يُعَدِّد تفعيلة اللحن، ويجعل شطراً طويلاً وشطراً قصيراً مثل:
[ألا يا راكبَ اللي كِنِّهْ الادْمي..
الى شاف القِنُوصْ وذار.
رَعَتْ عامينِ بالنوارْ.]
فالشطر خمس تفعيلات على وزن (مفاعيلن)، والعروض على وزن (مفاعيلانْ).. والشطر الثاني تفعيلتان والضرب على وزن (مفاعيلانْ) أيضاً.. وهذه التفعيلات إنما أستخدمها لقالب الوزن الجامد الذي هو للألحان حسب الذائقة العامة في استخدام التفعيلات، والأَوْلى التوزيع وفق الأنغام بالساكن والمتحرِّك سواء زادت التفعيلة أو نقصت.. مثال ذلك الشطر الذي أسلفته: (يقول اللي طواريقه كما) تضبطه هكذا: (يقولِ اللي - طواريقهْ (مفاعيلان)؛ لأن اللحن يشبع القاف بالمد، ويظلُّ النغم ثابتاً في كل بيت.. ومن الأوزان ما لها عدد من الألحان، وليس كل لحن له تسمية خاصة، ولكن لمجموعها اسم عام؛ فتحيل كل هذه الأنواع إلى الاسم العام مثل مسحوب وهجيني وشيباني مع أن الهجيني له أكثر من وزن، وأكثر من لحن.. وإنما يُميِّز الألحان لوزنٍ واحد التسجيل الموسيقي، وأما ضبط الوزن الجامد بالتفعيلات المعهودة عند العروضيين بأعدادها وأضرُبِها التي تحتوي وزن عدد من الألحان؛ فتقول: هذا اللحن على خمس تفعيلات من بحر الرمل مثل:
(يا هل العيرات باكر كان مريتوا طوارفْ خلِّي).. (خبروه اني شكيت الهمِّ والساموح عقب فراقه) أو على أربع تفعيلات مثل قوله: (هاضني نوٍّ شديد وشاق لي براقه).. (كن باركانه قناديل الحرم مشبوبة)
وقد يرد الشطر على وزن مستفعلن، وفاعلاتن ثلاث مرات، وفاعل، مثل قوله:
(لي صاحب شد عني في رجب واليوم هذا حوله)..
(اقفى وانا خايفٍ عقلي يجي به من هواه خلافْ)..
وقد يرد على وزن مستفعلن - فاعلن - مستفعلن - مُسْتفعلانْ، وهو من ألحان الرد كقوله:
(سلام حِيِّيت يا من هو مجاورٍ الحرم)..
(ردِّيه من ضميري عدِّما ناحَ الحمامْ)
ومثله إلا أن الضرب والعروض على وزن مستفعلاتن قوله:
(سلام ياللي الى منه حضر عندي صقرني)..
(مثل الحباري الى قابل لها الصارم صقرها)..
وقد يرد على فاعلاتن ثلاث مرات مثل:
(ما تملكنا طواريق الهوى عارية)..
(كلِّ هَجْوَهْ لو تِخَفَّى كتبته قاريها)
وهناك شعر يُقَطَّع بيته الواحد بأربع من القوافي وتقف بالسكون - وقد لا تقف بالسكون - على بعض القوافي فيكون له وزن مستقل كقوله:
عديت بالمرقاب
- والدمع
سكاب
واجاوب القنَّاب
لا من
لجابي
الوزن إذا سكنتَ:
مستفعلن فعلان
- مستفعلن
فاع
مستفعلن فعلان
- مستفعلن
فع
ولكنك تُحرِّك القوافي، وتصل البيت فيتحصل لك بحر المسحوب فتقول:
(عديت بالمرقاب والدمع سكاب)..
(واجاوب القنَّاب لا من لجابي)
الوزن: مستعلن - مستفعلن - فاعلاتان.. مستعلن - مستفعلن - فاعلاتن
فالأرجح أن الشاعر يُقطِّع في التلاوة، وأما عند الغناء فيتصل الكلام ليتحقق اللحن.. وقد يكون الشطر الواحد على ست تفعيلات هي: فاعلن - فاعلن - مستفعلن - فاعلن - مستفعل؛ وذلك قوله:
(آه يا من ضربني في يده كفٍّ على خِدِّتي عسراوي)..
(ما استحقيت به مير المودة صابرٍ بالخطا راعيها).
وأنجح قصائد ابن دويرج الغزلية ما نَظَمه على الألحان الناجحة التي شهرها في منطقة نجد كهذه القصيدة على هذا الدور من أدوار الألحان الحجازية:
(يا الله يا الله لا تجزا بنو الخير من غروٍ غرير)..
(شفته عسى عرضته يوم اعترض ما هيب لي عايدة).
ومن أمتع ألحان ابن دويرج قصيدته التي عارض بها الشاعر سليمان ابن شريم وإن كانت قصيدة ابن شريم أمتع.. ووزنهما للشطر الواحد - والضرب على وزن العروض -: (فاعلاتن - مفاعيلن - فعولن - مفاعيلانِ).. ومطلع قصيدة ابن دويرج:
[تَذْكِرْ اللي..
كما خَطْوَا الفريد الليِّ
تبيَّن على الختَّالِ]
وقد تعرض فيها لوصف الصيد، وإنما كان يكني عن الحبيبة تغزُّلاً لا غزلاً، وهذا نص الأبيات:
[تذكر اللي كما خَطْوَا الفريد اللي..
تبين على الختال.
فيه من مبسم الأدْمي وسلة..
عاتقه والعيون عيونه.
ما قويت العزا والصبر يوم انك..
عرضت الغزال قبالي.
ويش عذري من الله كان خليته..
وانا بندقي مشحونة.
دِرْتِ مسلوبةٍ من فوق متنٍ..
كنها شوكة السيال.
ملحها قاحل النقريز ما يخطي..
والضريبة وهي مضمونة.
مع تِكَيْمِلْ نَدْبها شوف عيني..
يوم ثار الدخن وانجال.
باشقر الدم يوم انه كشح..
من منشب الفاترة بمتونه.
هيَّج صيد المها مقفي والاول..
ما يِلِدَّ النظر للتالي.
يوم عرجد فتيخ وسِبِّقه..
مثل المغاليب روس قرونه.]
ولقد أفاد منها حاضر بن حضير.. إلا أنه قَصَر من وزن آخر كل شطر؛ فحقَّق لحناً آخر، ونظر إلى شيئ من لفظها في قوله:
[غاظني صاحبي والغيظ شال..
حمود عن قصر حايلْ.
شدِّ عن ديرته ثم..
انتزح بمحرمه للمدينة].
وزنه (فاعلن - فاعلن - مستفعلن - مستفعلن - فاعلاتن).
وقال ابن دويرج:
[غاظني والغيظ ما يصبر..
على ظيمه الرجال
أشهد انه كليف بحالِ والا..
حال حكم الهوى واهونه ].
وزنه: (فاعلن - فاعلن - مستفعلن - مستفعلن - فاعلاتن - فاعل).
ومع حلاوة قصيدة ابن دويرج التي أسلفتها إلا أن قصيدة سليمان ابن شريم أحلى.. قال سليمان:
[ يا اهل الفاطر اللي فوقها..
من كل دشن جديد وغالي.
سلموا لي عليه اليا لفيتو..
صاحبي يا هل المامونة.
عاش من ناشني من عشرته..
هملول صيفٍ حقوقٍ يالي.
رَيَّعتْ منه وديان الضماير..
واستتمت وهي مصيونة.
كل من لا يجازي بالجميل حمار..
لو كان اصيلِ عالي
آه منَّوا عليَّ بحاجته..
واليا هرج فاكتبوا مضمونه.
كان هو مقبلٍ لي لو نحيت بعيد..
ماني بدونه سالي.
وان نساني وصد وسج مع غيري..
قويت العَزا من دونه.
يا وجودي عليها في مثل ما فات..
يوم الشراب زلال.
يوم عيني على طرد المها..
وملاقفه بالهوى مفتونة.
صابر صبر ملهود الجمل..
والنفس في وِلْيته مرهونة.
كل ما جيت اعذل القلب..
عما فات عيني قليلة والي.
تعترضها صواديف الزمان..
وتبتليها وهي مجنونة.
ولِّ يا حظي اللي بعَّد الغالي..
وحط البغيض قبالي.
والنصيب الردي ما يدرك..
الغلطانة الدانة المكنونة.
عَدِلْ والله يحب العدل واللي..
ما يحبه ضميره خالي.
مثل من لا يعرف البا من التا..
والعرب خطهم يقرونه].
قال أبو عبدالرحمن: لم أكتب القصيدة حسب الأنغام، بل جَزَّأتها حسب اتساع العمود في الجريدة، ويكفي أن أُقطِّع أنغام بيت واحد يكون نموذجاً يُحتذى؛ فإليكم هذا النموذج:
[وَلِّ يا حاظِيَّ الليّْ.
فاعلاتن - مفاعي.
بَعّْدَ الغاليْ.
لن - مفاعيلن
وِحَطَّ الْ (يمد الطاء ويضمر ألف الوصل)
فعولن.
بِغِيْضْ قبالي.
مفاعيلان.]
وههنا أضمر ألف الوصل قبل (قْبالي)، وتوالى سكون الياء والضاد في (بغيض)، واللحن يجعل الساكنين حرفاً واحداً بالالتهام.. فهذا وزن شطر واحد من البيت.
قال أبو عبدالرحمن: مسلوبة بندقيَّته، والنقريز الذخيرة من ملح البارود، وتكيمل بلغة أهل السر الحاضرة بمعنى تكامل، وكشح لمع.. وفي رواية (كثح) بالثاء، وهي بمعنى حثوة الكف من البارود، وندبها صوتها، والهجوة معاناة قراءة حروف الهجاء، والمغالب ريش النعام، وعرجد هرب، وإلى لقاء قريب عاجل إن شاء الله، والله المستعان.
- عفا الله عنه -