لا أحد فوق الشقاء والكبد، مثلما أنه لا أحد فوق النقد والمساءلة.
ولو اجْترحْتُ مغامرة البحث عن محققات السعادة, لانقضى الوقت المتاح، قبل أن أمسك بطرف الخيط.
وغير المجربين هم وحدهم الذين يراودون شبح ....
... السعادة, ويظنون أنهم قادرون عليها: [وأخو الجهالة في الشقاوة يَنْعمُ].
وكم هارب من واقعه،تمنى العودة إليه!.
وكم باك من زمانه, لمَّا انقضى بكى عليه!.
وتلك الأوضاع دُوْلة بين مختلف الأطياف.
يُطَلِّق الرجل امرأته،لأنَّه شقي في معاشرتها، ويتزوجها آخر, ليجدها،كـ[أم زرع لأبي زرع].
وذات مرة تَسَلَّلت امرأةٌ من بيت زوجها، في جنح الظلام، لمعاناتها, فلما مَرَّت بأحد المساجد، سمعت الإمام يرتِّل: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4].
وحين انقطع صوته، انقلبت على أعقابها راجعة إلى بيت زوجها، وهي تردد: كَبَدٌ في بيت نعرفه، أحب إلينا من كَبدٍ في بيت لم نألفه: [وأي الناس تصفو مشاربه].
وما من كبير, أو صغير.
شَجِيَّ أو خَلِيِّ، إلا هو مترع بالمنغصات، مكتنف بالمخاوف.
حارس المنشأة في قرية نائية، والوزير الذي تتبعه تلك المنشأة، كلاهما برم يتأوه.
فـ [كُلٌّ ميسر لما خلق له].
وأرباب الخَوَرْنَقِ, والسَّدير, يصطرعون فيما بينهم على الحدود، والمبادئ، والمصالح.
ورعاة الشَّاءِ, والبعير،يحتربون فيما بينهم على الموارد والمراعي.
وكل صنف من الناس يحمل من الهموم ما تنوء به الجبال الراسيات.
وحتى الأمم الأخرى من دَوَابٍّ، وطيور، وزواحف, وهوام، وخشاش, وأسماك يطارد بعضها بعضا, على سنن الدورة الغذائية.
وإن كنا لا نفقه شيئا من عوالمها, مثلما أنَّنا لا نفقه تسبيحها: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام:38]:
[والظُّلْم من شِيَم النفوسِ فإِنْ تَجِدْ: ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظْلم]: [وما من ظالم إلا سيبلى بأظلم].
- فهل من عاقل يجد مبرراً لمؤامرات الغرب،وغزواته, وتحريشه, واستبداده، وفضائع ضرباته؟.
- فماذا ترك في أرجاء المعمورة؟.
لقد أوسعها دماراً للممتلكات، وإفساداً للأخلاق، واحتكاراً للحقائق، واحتقاراً للآخر.
ولو أنَّه عَقَلَ، لَحِرصَ على تسمين الحلائب, وتوفير الأجواء الملائمة لكسب مزيدٍ من الخيرات.
لقد دَمَّر دولاً, كانت تمده بالثروات, والمعادن, والخامات، وتستقبل صناعاته ومنتوجاته، ومع هذا لم يجد بُدًا من ضَرْبها بفلذات أكباده.
حتى إذا أهلك الحرث, والنسل، والسمعة، والهيبة، لاذ بالفرار، لا يلوي على شيء، وهو فيما يأتي، ويذر، إنما يبحث عن بواعث السَّعادة.
إنها سُنَّة التدافع، والتداول, والابتلاء، والعقاب، والاعتبار: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: 2].
وكم من أمم أُقْحِمت في أتون الفتن، ولسان حالها يقول: [لم أكن من جُنَاتِها علم الله:
وإِنِّي لِحَرِّها اليوم صالي] وذلك الاصطلاء المجاني قدر [الخليج العربي], بكل ما يعج به من خيرات،وما يقوم بينه وبين قادته من وفاق.
فليملأ الله بطون المفسدين ناراً, لقد شغلونا عن مُراوَدَةِ السعادة، والعمل للآجلة، كما شغل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأصحابَه رضوان الله عليهم عن الصلاة الوسطى.
والقدر العصيب الذي تعيشه الأمة العربية, لا طاقة لأحد باحتماله.
والذين بادروا واقعهم بالمواجهة، كادوا يَدُقُّون بينهم عِطْرَ مَنْشَمِ.
وحتى الذين أزاحوا عن كواهلهم ما يودون إزاحته، لم يكن باستطاعتهم تحقيق ما يحلمون به من حرية، ورخاء, وسعادة.
وهم إذ غنموا أعز ما يفقدون, لم يحسنوا اقتسام الأنفال، ولم تكن لهم مرجعية تُفْتيهم في قسمتها، وليس التنازع غريباً حول الفيء.
وكيف لا نتوقع ذلك.
والصحابةُ رضوان الله عليهم، سألوا عن الأنفال، وجاء الجواب الرباني، ليحسم الموقف،وينهي الخلاف.
والمُقَعِّرون للرؤية في مصائر الثورات, ينتابهم الخوف.
فالمعطيات محبطة.
والعائدون من الجهاد الحربي، يخوضون جهاداً أكبر.
ومن تصور أن الجهاد المسلح لا ينطوي على جهاد أكبر منه،لا يلتقي فيه المحتربان بسيفيهما, وإنما يلتقيان بالفكر والكلمات، فَوَّت على نفسه مبادرة الأزمات.
وأخطر ما تواجهه الأمة تصدع وحدتها الفكرية, والأفدح من ذلك كله، ألا يكون للمختلفين مرجعية: شخصيةٌ أو نصيَّةٌ، تبادر الأزمات في ساعة العسرة, وتحقن فيوض الآراء, والتصورات المتضاربة.
وذلك واقع الأمة العربية! من المحيط الهادر، إلى الخليج المضطرب.
وهو واقع تنداح فيه دوائر الفرقة والاختلاف، ويجد المغرضون والمتآمرون فيه أجواء ملائمة للتفريخ والصفير.
كما قُبَّرة في مَعْمَرِ.
كلُّ أولئك يضاربون على سمك في البحر، أو على طير في الهواء، بحثا عن السعادة.
وما نحن عليه من فيوض النعم، لا نملك تثبيته، ذلك أن الفرقاء كالمستهمين على سفينة، أي عابث فيها، يعرضها للغرق.
والأخذ على يَدَيْه في الوقت المناسب, قد ينقذ الجميع.
فهل نحن متفقون، أو متعاذرون, أو ناجحون في إدارة أزمة الاختلاف؟.
إن الإشكاليةَ ليست في الأخذ بحجز المندفعين، ولكنها في التوقيت الدقيق, وحسن الأداء، ودقة التدبير والتقدير, والقدرة على إقناع المُسْتَدْرَك بضرورة التدخل، وأسلوبه.
وكم من مسؤول راهن على حل، ولكنه لم يزد الأمر إلا تعقيدا واستعصاء، ولربما تأخذه العزة بالإثم, فَيُصر على رؤيته المفضولة، ويتولد من إصراره معاندون، يسهمون في توسيع هوة الخلاف.
وإذ لا ينجو أيُّ مجتمع من ملفات ساخنة، متفاوتة الخطورة، والأهمية، فإنها قد تُحَرَّك في تلك الظروف، فلكلِّ مجتمع بؤره المتوترة, المقدور على تطويقها, أو تحييدها، والحيلولة دون انفجارها.
وذلك لن يتأتى حين لا يطاع لقصير أمر.
والفرادة في مواجهة العَصِيِّ من المشاكل, قد يمكنها من الاستفحال.
ومن أمن المشاكل، فاجأته في ساعة الغفلة.
وشرار الخلق يتوفرون على جَلَد الفاجر، وإحساسهم بالمطاردة, يحملهم على التربص، والمكر, والبحث عن الثنيات المهملة.
ومتى استطاع القائم على بؤر التوتر رَدْمَها، ثم لا يفعل، جاء يوٌم لا تتوفر عنده الإمكانيات, وكلُّ النَّاس يغدو، فمعتق أو موبق، وكم من طائف: [يبغى نجوةً من هلاك فهلك].
وكم من مشكلة بَدَتْ صغيرة، وغير مثيرة، ولكنها مع الإهمال والتسويف, وتنكبُّ ذكر العواقب جانباً, تستفحل، ثم تتحول إلى عبوة ناسفة،تغري الأعداء على مبادرتها: [والنار من مستصغر الشرر].
ولقد يساور الصَّفْوةَ هَمُّ المشاركة الوجدانية، أو العملية، ثم لا يجدون لهم في لجة المشاكل بارقة أمل.
ولربما يستبد بالأمر من لم تكتمل عنده مفردات القضايا، ثم لا ينفعه الصدق، ولا الإخلاص.
وحين تَرِمُّ الجروح على فساد، تكون على موعد مع الانفجار.
و: [إذا ما لجُرْح رَمَّ على فَساد:
تَبَيَّن فيه إِهْمالُ الطَّبِيب]
وما من متابع،يعي واقعه إلا هو على علم بما يحيط به من مشاكل، وما يحاك ضده من مؤامرات.
فالتجارب والخبرات تمكن من التنبؤات, وفراسة المؤمن كمسؤول الأرصاد، له توقعاته.
ومواجهة المشاكل لحلها، لا يستدعي البحث عن المسؤول، لأن مثل ذلك يؤزم الموقف، ومن ثم فالاحتواء يتطلب مبدأ [العفو عما سلف].
ولأن كل ذي نعمة محسود, فإن بلداً كـ[ المملكة العربية السعودية] بما أنعم الله عليها من أمن، وإيمان، واستقرار، واستقامة على الحق، وامتثال لأمر الله، وتصالح مع قادتها.
لن ينجو من كيد الكائدين، وحسد الحاسدين، وإذ لا نراهن على النجاة من كل المعوقات، فلا أقل من محاصرتها, وتضييق الخناق عليها، والخلوص من بؤرها, بأسرع الأوقات، وأقل التكاليف، وسنظل نردد مع الشَّجِي
[كُلُّ من لاقيت يشكو دهره:.
ليت شِعْرِي هذه الدنيا لمن]
وسيظلُّ قَدَرُنا مشدوداً بأمْراس كِتَّان إلى عِطرْ المرأة الحميرية [مَنْشَمِ] بوصف عِطْرِها مدعاة للشر، والحرب:
[أَرَانِي وعَمراً بيننا دَقُّ مَنْشَمِ:
فلم يَبْق إلاَّ أن أُجَنّ ويَكْلَبا].