صاحب العيادة هو الدكتور محمد بن عبدالله المفرِّح، وهو الطبيب المتخصص في الطب الباطني وقد رصد تجارب إنسانية ممتعة عايشها في عيادته ثم أصدرها مؤخراً في كتاب رشيق بعنوان «في عيادتي».
إذا كنتَ مثلي فسوف تقرأ الكتاب في جلسة أو جلستين، لأنه ممتع ومباشر ويستقي مادته من أفواه وألسنة المرضى، فتأتي «سواليفهم» شفافة ومعبرة بل وطريفة ومليئة بالحكمة.
أكثر المرضى، فيما يبدو، يثرثرون أكثر من اللازم أمام أطبائهم. بعض الأطباء يتحمل ثرثرة المرضى لأنه يعلم أن الإنصات للمريض أو حتى التظاهر بالإنصات ومقابلته بوجه بشوش باسم والحديث معه بنبرة متفائلة مشرقة قد تكون أفضل من أي علاج لأنها ترفع معنوياته وتقوي عزيمته وتساعده على مواجهة المرض. وبعض الأطباء تدخل إليه فتجده عابساً وتتحدث معه فتشعر أنك تتحدث إلى نفسك وعندما تخرج منه تكون في شكٍ كبير من جدوى «الروشته» التي كتبها لك لأنك لستَ متأكداً من أنه قد استمع إلى «قصتك» ولم يكلف نفسه أن يسألك عن أمور تعلم -من ثقافتك العامة- أنها ذات علاقة بما تشكوى منه.
الدكتور المفرح لا يستمع فقط إلى مرضاه، بل يسجل في دفتر يومياته الخاص بعض طرائف حكاياتهم، وقد راكم الكثير منها على مدى سنوات عمله الطويل وخرج بهذا الكتاب الممتع.
***
ظاهرة الكتاب الأطباء قديمة متجددة، بعضهم يكتب نصوصاً أدبية متميزة، وبعضهم يكتب في السياسة والفلسفة والشأن العام، وبعضهم يقدم مادة طبية يفهمها الناس لأنها سلسة وبعيدة عن المصطلحات والتعابير المتخصصة.
أول كتاب قرأته لطبيب كان كتاب «مذكرات طبيبة» تأليف الدكتورة نوال السعداوي من سلسلة اقرأ المصرية قبل عشرات السنين وذلك قبل أن نعرف الدكتورة نوال ككاتبة مهمومة بالقضايا «النسوية» أو قضايا «الجندر». ثم كتابات الدكتور عبدالسلام العجيلي في مجلة «الأسبوع العربي» يوم أن كانت في أوجها برئاسة تحرير الأستاذ ياسر هواري ومسلسلات تمثلياته الإذاعية في الـ»بي بي سي» العربية ومنها المسلسل الجميل الذي كان يذاع بعنوان «النهر سلطان»، ثم عرفنا الدكتور العجيلي بمجموعات قصصه القصيرة! وكان الدكتور مصطفى محمود هو الآخر يكتب مقالات في مجلة «الأسبوع العربي» وكنا لا نستطيع الوصول إلى كتاباته في المجلات والصحف المصرية وذلك قبل تحولاته الدينية والسياسية وقبل الانفتاح الإعلامي على كتبه التي صارت تباع في مكتباتنا. وتزامن ذلك مع كتابات الدكتور عبدالله مناع في مجلة «اليمامة» عندما كان الأستاذ محمد أحمد الشدي رئيساً لتحريرها، وكتابات الدكتور صبري القباني في مجلة «طبيبك» وفي كتبه التي كانت تلقى رواجاً كبيراً. أما الاكتشاف الكبير لبعض أبناء جيلي لكتابات الأطباء الأدباء فكان عندما عرفنا قصص وروايات الكاتب الروسي أنطون تشيكوف والمصري يوسف إدريس وأسماء أخرى جديدة جاءت بعد ذلك بسنوات طويلة مثل الدكتور علاء الأسواني.
***
والخلاصة، أن ثمة خيط يربط بين «الطب» و»الكتابة»، وليس هذا غريباً فالطبيب يواجه حالات إنسانية تفجر فيه موهبة الكتابة وتحفزه عليها، سواء كانت في مجال الإبداع الأدبي أو الكتابات الفكرية والثقافية المتنوعة أو الخواطر والكتابات الانطباعية.
تحية للدكتور المفرح على كتابه اللطيف «في عيادتي» الذي نأمل أن يكون هو الجزء الأول من سلسلة متتابعة.
alhumaidak@gmail.comص.ب 105727 - رمز بريدي 11656 - الرياض