* يلازمني شعور بالزهو أنني أحد خريجي مدرسة اليمامة الثانوية بالرياض قبل نحو نصف قرن تقريباً، عشت في ظلالها أزهى مراحل العمر، جداً واجتهاداً تُوّج بتخرّجي منها متفوِّقاً بالمركز الأول على مستوى المملكة في (القسم الأدبي) في عام 1381هـ، وقد أهّلني ذلك للابتعاث إلى أمريكا، وكان حراك الابتعاث الجامعي إلى خارج المملكة وقتئذ يتبع في بداياته منهج الانتقائية المحدودة مبنية على تفوّق التحصيل العلمي للطالب.
***
* وأذكر في هذا السياق أنني استقبلت قرار ابتعاثي إلى أمريكا بموقف يتقاسمه الفرح والقلق وبعض الخوف من الفشل، ولما فاتحت سيدي الوالد - رحمه الله- بهذا التوجّه المضطرب عاتبني، ونهاني أن اعتذر عن الابتعاث، فاستسلمت لموقفه اقتناعاً به لا خوفاً من أبي، وسعيت جاهداً إلى إقناع سيدتي الوالدة - رحمها الله-، طلباً لرضاها وتأييداً منها لمشروع ابتعاثي، فوافقت على مضض، وقرنت ذلك بالدعاء لي بالتوفيق، ثم كان أمري بعد ذلك ما كان!
***
* كان المناخ التربوي في مدرسة (اليمامة الثانوية) مشبعاً بالحزم، وشيء من النشاط الفكري والحركي، وكانت معادلة التعامل بين المربي والطالب تحكمها إلى حد كبير المقولة الشهيرة: (قم للمعلم..) فكانت ضوابط الاحترام والتقدير له خطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها.. وكنا معشر الطلاب نتعامل مع هذه الضوابط بتلقائية لا تقبل سؤالاً ولا تساؤلاً!
***
* بقيت في الخاطر ذكرى لا تغرب شمسها تتعلّق بمعلم الدروس الدينية في الفصل الأول الثانوي، الشيخ ناصر الحناكي - رحمه الله- فقد كان يلقي دروسه بصوت جهور يكاد صداه يتجاوز جدران الفصل، لكن إلقاءه لم يكن ثقيلاً ولا مملاً، فلغته جميلة لا تعاني تكلّفاً، ولا تشكو لحناً، وكان أحياناً (يخرج عن النص) تعليقاً على بعض أحداث السياسة الدولية ونوائبها تتلوّن نفسياً ولغوياً بحسب مضمون الحَدَث، فهي ساخرة، وأخرى ساخنة، وثالثة، يمزجها بشيء من الدعابة الضاحكة.
***
* وكان من بين زملاء الفصل الزميل والفنان فطرة فارس بن عبدالرحمن الفارس، كان هذا الزميل الرائع يمارس أحياناً (شقاوته) الفنية أثناء حصة الشيخ الحناكي، فيرسم بريشته رسماً جميلاً يدغدغ بعض حواس الشباب المراهق، ثم يمرره خفية بين الزملاء يمنة ويسرة، وكل من رأى الرسم.. استسلم لنوبة من الضحك الخافت لا يبدده سوى نهر الشيخ الحناكي له!
***
* اختم هذا الحديث بباقة إكبار وتقدير لصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله- يوم كان أميراً لمنطقة الرياض، ففي عام 1419هـ، كانت عمليات التحضير لمهرجان الاحتفاء بمرور مائة عام على تأسيس المملكة على قدم وساق، وكان الموقع القديم لمدرسة اليمامة الثانوية مجاوراً جداً لحديقة المربع قلب الرياض، وتقرَّر أن تصبح هذه الحديقة مقراً لبعض المنشآت الحضارية ذات الصلة بالحدث المئوي الكبير، من بينها المتحف الوطني الضخم، ومقر دارة الملك عبدالعزيز وغيرهما.
***
* وكان لا بد، والحال هذا، أن يُزال مبنى مدرسة اليمامة الثانوية، وتنقل إلى موقع آخر، فكتبت مقالاً أشرت فيه إلى أن لهذه المدرسة موقعاً وجدانياً في قلوب معظم من تخرَّجوا منها، ومنهم كاتب هذه السطور، ورجوت سموه - حفظه الله -أن يوجّه بإقامة نصب تذكاري في ركن مناسب من المقر السابق للمدرسة بعد إزالة مبناها، ليبقى خير شاهد على قيمة هذه المدرسة، حضارياً وتربوياً، ثم اتبعت المقال برسالة خاصة رفعتها إلى سموه الكريم تحمل المعنى ذاته، وقد فهمت أن سموه الكريم قد استجاب للطلب موجهاً بتنفيذ الاقتراح آنف الذكر.