تظن إحدى قريباتي التي تبلغ من العمر الثالثة والأربعين أن حياة الإنسان تنقسم إلى نصفين، النصف الأول وهو ما قبل سن الأربعين والنصف الآخر ما بعده.. ونؤكد أن لكل من هؤلاء الأنصاف تبعات وأبعاداً.
فهي تعتقد أن فريق (ما بعد الأربعين) بحكم تقدم العمر فلابد أن تضعف لديهم المدارك وتقل قدرتهم على الاستيعاب والحفظ ويغدو نشاطهم لتعلم أشياء جديدة وهمتهم لاكتساب المزيد من المعارف في اضمحلال متزايد ومستمر حتى يحكم الله أمرا كان مفعولا.
ترى قريبتي أن دورها الآن أن تفرّغ ما تبقى في كيسها منتقية أجود ما فيه من بذور لتستزرعها في حقل أبنائها مهمشة بذلك ذاتها.
أحاول بدوري جاهدة على دحض فكرتها التي أؤمن أن قتلها مشروع، لكن محاولاتي دائما ما تبوء بالفشل، وتعلل هي بدورها وتبرر إصرارها على أن تنأى بنفسها بعيدا عن نفسها بأن المرأة في مجتمع غير حر ومنغلق يقصقص أجنحة النساء ويكسر مجاديفهن.. وأزاحم أقوالها هذه بقولي لها إن ما تقوله حقيقة جلية وأنها مشكلة اجتماعية موجودة عدا أنها ليست مشكلتها هي وحدها، إنما مشكلتها هي شخصية وفردية تتعلق بها وبإرادتها وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم
فشماعة المجتمع أصبحت متضخمة ومخيفة كفزاعة الحقل تعاظمت وتكالبت عليها القضايا والاتهامات فأصبحت لا تطيق ما ليس لها به شأن
يتراءى لي أحيانا بأنها كسولة أو أن روحها هرمة وبلغت من التعب مداه، ولكن حالي معها أشبه بمن عثر على منجم ويخشى أن يأتي يوم وينضب، فيسعى جاهداً مستحثاً هذه الثروة على الازدهار وانتفى النفاذ..
تحاورها تجد عقلية فذة وتستأذنها بمشورة فلا تجد إلا فكرا راقيا، شخصية لديها نظرة عميقة مداها سحيق، تتكهن بما بين السطور بعناية وحكمة تحلل، تفكر، تتأمل.. وهذا علة إصراري.
ولكن أرفض الأعذار التي قلبها عدو ووجهها صاحب، لأني أؤمن أن الفوز في هذه الحياة ليس بإخضاعها وتذليلها، فالحياة لا تُذل ولكن عليك ألا تدعها تسقطك أرضا وتبقيك حيثما سقطت.
فالمرأة المنتصرة هي التي تتوكأ على عصا بينما ظلها يرقص شباباً وحبوراً. المرأة صاحبة الإرادة هي التي تغزل خيوط صوفها وقطنها بعظم إذا لم تجد مِغزل..!
تذكرت قريبتي حينما قرأت عن الأستاذ الأديب محمد شكري الذي عاش طفولة صعبة ومرهقة عمل وهو لم يكمل العاشرة خادما في مقهى ومن ثم انتقل للعمل حمالا فبائع جرائد ومساح أحذية حتى انتهى به المطاف بائع سجائر..!
بلغ محمد شكري العشرين من عمره وهو أمي لا يعرف الكتابة ولا القراءة. ولكن في سنة 1955م قرر أن يلعن الظلام ولا يقبل بغير الشمس شمعة، رحل بعيدا عن الوحل الذي كان يتمرغ فيه ودخل المدرسة وتخرج بعد بضعة سنين منها ليصبح معلماً، وبعد إحدى عشر عاما نشر عمله الأول المتمثل في قصة وهي كانت باكورة أعماله وبعد ذلك توالت أعماله الأدبية على أبصار النور حتى ألف رواية «الخبز الحافي» التي حققت نجاحا منقطع النظير وترجمت إلى أكثر من 38 لغة..!
محمد شكري لم يدرس الأدب ولم يتمتع بطفولة سعيدة. وبالتأكيد لم تخلُ حياته من المنغصات ولكن هذا كله لم يشكل حائلا بينه وبين أن يكتب رواية جعلت منه ناجحا وغير عادي. ومن باب التأكيد سأسوق مثالا آخر يحكي عن الأديب جورج داوسن المزارع الأمي الذي تعلم القراءة والكتابة في سن آل 98 وفي سن الـ102 عاما أصدر كتابه «الحياة رائعة جدا» الذي احتل صدارة قائمة العشرة كتب مبيعا لأكثر من 3 أعوام على التوالي. آمل أن تترك هذه الأمثلة أثراً على قريبتي ولو بسيطا، على الرغم من أني لست متأكدة أنها لن تجد ثغرات تتذرع بها لتغذي فكرتها، وبلا شك حينما ينظر الإنسان بعين رفض سيجد ما يريد وسيجد المعنى الذي يريد استنباطه.
فأتمنى ما تمر به هو استراحة محارب ليس أقل ولا أكثر..فهي من الأشخاص المتنورين بنور العقل والعلم والتأمل والفكر وهذه صفات من اصطفاهم الله بنوره ومنحهم اياه.
ذهب السنابل: (من المحبرة إلى المقبرة ومع الدواة إلى الممات) أحمد بن حنبل
Lec.22@windowslive.com