يرتفع سقف المطالب كلما ازداد الإصلاح. فمعضلة الإصلاح كمعضلة الثروة. فكلما ازداد الإنسان غنى وقوة ازداد طمعه في المزيد، إلا من رحم الله. ومعضلة الإصلاح التطبيقية كماء السماء. فإن تأخر المُزن، هلكت البلاد والعباد بالجوع والعطش. وإن جاء مطرا دفعة واحدة، غرقت البلاد وفسدت الحال. وأما إن جاء غيثا هادئا مستديما، كان مغاثا للبلاد وحياة للعباد.
وقد كانت الصين امبراطورية إقطاعية لآلاف السنين، ومع تأثيرات العالم الجديد الحر ورفض الامبراطورية لفكرة الإصلاح، ثار شعب الصين فأطاح بثورة دموية بالإمبراطورية العريقة. وسرعان ما اكتشفت الصين خطأ اختيارها للشيوعية بدلا من الرأسمالية، فاعترفت به. فبدأت مسيرة الإصلاح مبكرا، فهي في نمو وازدهار أسطوريين منذ ثلاثة عقود دون دمار ودماء وفوضى.
وكانت روسيا قيصرية إقطاعية لم تستوعب قوة أثر الإصلاح والتغيرات الديمقراطية في جارتها أوروبا، فلم تكترث بالعمل على الإصلاح. فانهارت القيصرية الروسية تحت أقدام الثورة الدموية البلشفية الفظيعة. وبخلاف الرفاق في الصين، فالشيوعيون الروس لم يتعلموا من التاريخ القريب وسقوط الامبراطوريات. فقد أخفى الرفاق الروس فشل الشيوعية، وستروا خبثها، وتعاموا عن الحلول الجذرية بالحلول الوقتية المُسكنة التي تسمح بانتشار المرض بدلا من استئصاله. فانهارت روسيا وتفرقت وأصبحت من سقط متاع الدول بعد أن كانت من تياجينها. وأتت الأمراض والسرطانات التي استأصلت فيها على شتى مجالات الحياة، فما عاد يُأمل فيها خير قريب. بخلاف آمال العالم المشرقة عند أبواب الرفاق في الصين، رغم أن روسيا كانت أكثر تطورا وتقدما علميا وأعظم بأسا عسكريا من الصين. وما فرق بين الرفاق الماركسيين في الصين وروسيا إلا الاعتراف المبكر بحتمية الإصلاح والعمل عليه.
الثقافات الدينية والبيروقراطية الإقطاعية الدفاعية الممانعة لا ترى في الإصلاح إلا زوال لنفوذها وأفول لمجدها. فهذه الثقافات تقف دائما وأبدا ضد الإصلاح، وهي -أي هذه الثقافات- أصعب عائق للإصلاح. ووجه الصعوبة هو أن سلاحها الذي تحارب به هو ثقافة الناس التي نشأوا عليها. والثقافة هي ميزان الحُكم على الأشياء في عقل الإنسان الباطني. والثقافة لا تتغير بسرعة إلا بهزات قوية. وسقف المطالب دائما يزداد بمعدل أعلى ووتيرة أسرع من تزايد الإصلاح، فهي فطرة الطمع الإنسانية. لذا فالإصلاح يجب أن يجد طرقا سريعة يسبق فيها ارتفاع سقف المطالب، كما يجب أن يبحث عن وسائل مبتكرة ليخلق بها هزات قوية للثقافات الممانعة في المجتمع، لينزع سلاح الممانعة المتمثل في الثقافة القائمة.
مسيرة الإصلاح التي ابتدأها الملك الصالح تسير سيرا حثيثا إلا أنها -كغالب مسيرات الإصلاح- أبطأ بمراحل من مسيرة ارتفاع سقف المطالب. وهذا عائد لأسباب كثيرة، من أهمها الإرث الثقافي والديني والاجتماعي والاقتصادي والتعليمي والصحي. وإصلاح هذا الإرث يحتاج إلى وقت. وأن أفضل الطرق لسبق الإصلاح لارتفاع سقف المطالب هو إصلاح العامل المشترك بين الإرث الموروث والأمل المنظور والوطن الأمن المأمول، وهو إصلاح وضع الأراضي. فالسعودي له حق في أرضه والملكية فيه هي التي تجعله وطنا له. (ومن شواهد هذا، أنك ترى الآباء ينهون أبناءهم عن امتلاك منازل في أمريكا أيام دراستهم خوفا من تعلقهم بها وعدم رجوعهم).
وكل الحلول الإصلاحية التي بذلت، لن تنجح أمام عقبة الأراضي. وكل الجهات التقليدية الممانعة للإصلاح -البيروقراطية والدينية والإقطاعية- تتفق على إحباط مشروع الزكاة والضرائب الذي هو الحل الأمثل. والذي يمكن تطبيقه بطريقة تدرجية فنية علمية وذكية تراعي التبعيات السياسية والاقتصادية من فرض الزكاة على الأراضي.
إصلاح وضع الأراضي بفرض زكاة اقتصادية تنموية عليها سيكسر شوكة جهات الممانعة، ويسهل ويحقق الإصلاحات المتعثرة بسبب شح الأراضي، ويسرع بمسيرة الإصلاح لتسبق سرعة ارتفاع سقف المطالب ويهدأ محركاته إلى حين زمني كاف لإعطاء فرصة زمنية لتحقيق الإصلاح الكلي الشامل.
وإن التسويف في إصلاح وضع الأراضي بفرض الزكاة على أمل نجاح المُسكنات الأخرى سينتج عنه الحاجة إلى تطبيق عاجل له، وذلك عندما ينادي المنادي أنه لا ينفع البر يوم الغارة.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem