لم تكد الطفلة ذات الأعوام العشرة تضع لقطتها العبثية الأولى عبر وسيط الـ”كِيكْ” حتى حظيت بألفي مشاهدةٍ خلال ساعةٍ واحدةٍ فقط، وكان لها أن تصبح نجمةً لو شاء ذووها المواصلة؛ وهو ما وفره “الكيك” لمجموعات الشباب حول العالم لاستطاعته الجمع بين وسائط التواصل الأكثر شهرة (فيسبوك وتويتر وانستغرام ويو تيوب)، ويبدو- حتى صدور وسيط جديد- الأكثر انتشارًا هذه الأيام.
ملاحقة التقنية إنهاك عقليٌ وامتلاءٌ فارغٌ وتحولٌ في الخطاب التقليدي وإعلانُ فشلٍ لكثيرٍ من مشروعات التوجيه والتربية والرقابة التي ظلت مهيمنةً طيلة عقودٍ ممتدةٍ من الأمس وما قبله، ومن الهمس وما فوقه؛ فقد استطاع الإعلامُ الرقميُّ القفز فوق الحواجزِ المجتمعيةِ ولم يعبأْ بالتراتبيةِ الثقافية ولا يعنيه الاسمُ والوسمُ المحاطان بهالةٍ من القدسية والحصانة، كما لا يتوقف عند “تابو” المحرمات، وربما تمادى بعضُ فاعليه ومتفاعليه فنسُوا مَن هم وأين هم وإلى أين يسيرون.
تتداخل هنا أربعة عوامل مهمةٍ متصلةٍ بالمضمون والتأثير والشهرة والديمومة، وفيما نجزم بتفوق عامل الشهرة والانتشار في الوسيط الرقميٌ لدرجةٍ جعلته مقياسًا للنجومية المجتمعية التي أعشت عيون بعض الرموز الفاعلة فقادتهم إلى التنافس مع أبنائهم وأحفادهم في الانقطاع له والرهان على أمدائه وامتداده. وفي حين نؤمن بالتأثير الوقتي له، فإننا لا نستطيع الحكم القاطعَ بإيجابيته، مثلما أن المحتوى والتأثير التبادلي والديمومة لم تدرس بعد دراسةً منهجيةً ويصعب التنبؤُ بمساراتها القادمة.
القضيةُ متصلةٌ بالصراع الأزلي بين القديم والجديد لتبقى شهادةُ الفريقين متحيزةً وإن مُوهت بتميز أحدهما، وحين سئل “طه حسين” الذي ثار على القديم يومًا عن أسباب تضاؤل أعماله النقدية لإبداع الشباب استعار بيت “عمرو بن معديكرب الزبيدي” المثبت في الحماسة:
فلو أن قومي أنطقتني رماحُهم
نطقتُ ولكنّ الرماحَ أجرّتِ
نحن اليوم على مسافة أربعين عامًا من وفاته (1973م) -رحمه الله- وقد تكاثرت الرماح فنطق من وعى ومن ادعى، ولم يبق في الأفواه ما يحبسه الماء فطار به الهواء، ولم نجد غير “قبض الريح أو حصاد الهشيم” كما وسم “المازنيّ “ الراحلُ قبل أكثر من ستين عامًا (1949م) -غفر الله له- كتابيه الذائعين؛ فكأنهما “العميد والديوانيّ” حكيا عن غدٍ لم يعيشاه ليريا العييَّ خطيبًا والمريضَ طبيبًا والضئيلَ ذا عزم والصغيرَ صاحبَ رسم.
المتغيراتُ تقود وتُقاد، والمؤشرات تُوحي وتستوحي، وفي غياب ثقافة التأصيل يصبح الجميعُ مثقفين، وعند افتقاد المعايير تتلون الأظلة دون أشعة ويسود اللون الرماديُّ، ومن يمتد به العمر فسيرى لغةً جديدةً تسودُ حين ينقرضُ الجيل الذي عاشها تعبًا في التحصيل ودوارًا في التفصيل وقولاً يصدقه فعل ويشخصنه فاعل.
لملم أرقه التقني واستعاد استرخاءَه الورقيّ وأيقن أنه قد غاب عن فاتحة المضمون، فليعد لصمتِ الكتاب الأصفر والأغبر ففيه اخضرارُ الذات ومطر السمات.
الفكرُ يهدي ولا يهذي.
ibrturkia@gmail.comt :@abohtoon