لماذا يبدو الحال أننا نحاول إعادة اكتشاف العجلة، بينما تم اكتشافها منذ قرون عديدة، أكتب ذلك بعدما أصبح الإعلام يتناول بشكل متكرر قضية احتكار بعض مؤسسات المقاولات لمشاريع بعض المؤسسات والوزارات، والتي قد تضع المسئول في قفص الاتهام، وإن كان بريئاً من تهمة الفساد الإداري والمالي، ويضعه ذلك الإجراء المتكرر في دائرة الشك، وكأن ما في البلد إلا ذلك المقاول.
في فحوى هذا الكلمات ربما ندرك عدم تقدمنا كثيراً في سلم الشفافية والفساد العالمي، والذي يعتمد على معايير منها الرقابة المستقلة والشفافية والكشف عن الفساد بكل تجرد، ولن نصل إلى مراتب عليا ما دام المسؤول عن الدائرة أو المؤسسة الحكومية لا يُسأل من جهة مستقلة تماماً عن الحكومة، ولكنها تابعة للدولة عن مخالفاته المالية والإدارية إن وجدت، وإذا لم تصدر العقوبات في حق من يجرم في مستقبل هذه البلاد، ستكون عدم المبالاة إجابة المسئول عن الأسئلة الشفافة، وإذا لم نبحث عن هؤلاء في مختلف المؤسسات سيستمر فسادهم وضررهم العام على الوطن.
بالتأكيد من الخطأ الجسيم أن نرمي التهم جزافاً، ولكن ربما في وسعنا أن نطلب الإفصاح عن المشاريع وقيمتها، ولماذا يتم اختزال المشاريع في شركة مقاولات واحدة أو اثنتين، ونكتب عن ذلك لأننا ندرك أهمية مستقبل هذا الوطن الجميل لأبنائنا وأحفادنا، وبسبب ذلك سنحاول دائماً رفع رايات التحذير من الوقوع في فخ الفساد الإداري والمالي، وأن نحذّر من خطورته على المستقبل، قد يكون الإجراء صحيحاً في ترسية المقاولات، ولكن أن يتم احتكار مؤسسة مقاولات واحدة لكل مشاريع المؤسسة أمر يثير الريبة، ومن المفترض أن تبتعد المؤسسة والوزارة عن الشكك في إجراءاتها الإدارية، وأن تفصح بشكل واضح عن سبب اختيارها المستمر لتلك المؤسسة، وذلك من أجل أن لا تدنس الوزارة سمعتها في الإصرار على التعامل مع شركة محددة، والأخطر من ذلك عندما يكون ملاَّك المؤسسة غير معروفين ويجهل المجتمع لمن تتبع، وفي ذلك إخلال بمعايير الشفافية.
الشفافية لا تحتاج كثيراً إلى تفصيل وشرح واف، لكن تشترط وضوح الإجراءات التي يتم من خلالها العمل في ترسية المشاريع وكيفية مراقبة تنفيذها، والأهم من ذلك أن يُراقب المشروع من قبل جهات ليس لها علاقة بالجهة المنفذة، وذلك من أجل التأكيد على تنفيذها بالمواصفات المتفق عليها، وذلك لئلا ينتهي الأمر بفساد المشروع ثم إعادة ترميمه بتكاليف أخرى، وفي هذا العصر يُفترض أن تصبح الاجتماعات الحكومية مفتوحة للإعلام والجماهير، ويكون هناك مجال للحوار ومناقشة القوانين والتعليمات والقرارات، وبالتالي تضيق الفرص أمام المؤسسة الحكومية في إساءة استخدام السلطة لمصلحة مسؤوليها.
يعد إطلاق السلطة التنفيذية للمسؤول الستار الذي قد يتوارى خلفه الفاسدون، ومن خلال البيروقراطية المغلقة يبحث عن مصالحه أو فرصته ليتحول من مجرد مسؤول إداري إلى ثري يُشار له بالبنان، وعادة تظهر آثار النعمة عليه بعد سنوات من انقضاء الخدمة، ويخرج في وسائل الإعلام كرجل أعمال ناجح بينما يعرف جيداً أنه لم يحقق ذلك النجاح من خلال إبداعه وقصص نجاحاته، ولكن عبر الاهتمام بمصالحه قبل أي شيء آخر في المؤسسة، وفي ذلك ضرر كبير باقتصاد الوطن، وتشويه لقصة الحلم الوطني الذي يجب أن يكون من خلال الإبداع وخلق الفرص الذهبية، وليس عبر استغلال للمناصب من أجل الثراء الفاحش.
في نهاية الأمر لن يصح إلا الصحيح لأن التعامل من خلال الشفافية سيجسد مشاركة المجتمع في العملية الإدارية عن طريق الإعلام والجماهير في أوضح صوره، وبكل شفافية لم يعد الأمر يحتمل التأخير لأن الأنظمة المعاصرة تقوم على هذه الأسس من خلال مشاركة الناس والإعلام، وفي ذلك إيجاد طرق للتأثير على القرارات على مختلف مستويات الدولة لمن يريد ذلك، والعائد الأكبر سيكون في تضييق الهوة بين خطط التنمية وبين مصالح الناس، ولن يتحقق ذلك إلا بالتنازل عن كبرياء السلطة من أجل مستقبل وطني باهر.