كيف تتحرك الشابات السعوديات في مدينة اتسعت فجأة من ثلاثمائة ألف ساكن عام 1968 إلى خمسة ملايين نسمة عام 2011م، وما هي الفضاءات العامة المتاحة للمرأة للتحرك فيها والأدوار التي تلعبها التجمعات الرسمية كالحكومة ومؤسسات التجارة والاقتصاد والبنوك والمؤسسات الدينية،
مثل الجمعيات الدينية والهيئات كهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تحديد ما هو مقبول وغير مقبول من القواعد والتشريعات التي تتيح الحركة أو تمنعها، وإلى أي حد تتمكن النساء داخل هذه المدينة الكبيرة من الحركة والتواصل والتآنس والحصول على عمل أو التمتع بصحبة أو أداء بعض الالتزامات الخاصة والاجتماعية أو حتى الاستهلاكية التي تندفع المرأة السعودية إليها بقوة بحكم النموذج الأمريكي المطروح في بناء المدن السعودية كمدينة الرياض؟
أسئلة كثيرة طرحتها الباحثة الفرنسية أميلي لورونار في كتابها: «النساء والفضاءات العامة في المملكة العربية السعودية»، والذي قامت الباحثة فيه بتتبع ومقابلة عدد كبير من النساء من مختلف الأعمار والتوجهات، وفي مختلف المواقف التعليمية والاجتماعية، من أجل فهم ممارساتهن اليومية والخطابات السياسية والدينية القائمة لحظتها تجاههن، وكيف توسع هذه الخطابات أو تضيق الهوامش المتاحة لهن.. حاولت الباحثة أن تفهم كيف تمكنت السعوديات -رغم واقعهن الضيق- من ابتكار أنماط حياة جديدة مهنية واستهلاكية يشكلها سياق محدد اقتصادي وسياسي، والتفاعلات في هذه الفضاءات المشتركة من أجل تجاوز القيود العامة التي تحد من حراكهن وأنشطتهن وتصرفاتهن في المدينة.
قامت الباحثة بمراقبة الفضاءات العامة الأساسية التي يمكن للمرأة أن توجد فيها، وهي أربع، أولاً الفضاءات التعليمية مثل بعض الفروع الجامعية النسائية، مثل فرع عليشة التابع لجامعة الملك سعود ومعهد الإدارة العامة، والثاني هو الفضاءات المهنية والعملية عبر مراقبة ومقابلة بعض العاملات في بعض الجمعيات النسائية أو البنوك، ثم ثالثاً الفضاءات الدينية والذي شكل الأقل قابلية للنفاذ والأصعب في التوغل فيه بسبب توجس العاملات والحس الرقابي المرتفع لديهن تجاه كل باحثة حتى لو كانت سعودية، ثم أخيراً وكما أدركت الباحثة أن الفضاء التجاري يشكل فضاء مهماً للشابات (المدينيات) (أي بنات المدينة) رغم أنهن لا يرتدنه كل يوم.. لكن الحضور المختلط للرجال والنساء يطرح مشكلات عملية: الخطابات الدينية المحددة للآداب الحسنة المطلوبة لارتياد المراكز التجارية، ومقالات الصحف المحلية والأجنبية التي تكشف الخيال الذي يحيط بهذا المكان والطريقة التي تثير فيها عينة الدراسة قضية المراكز التجارية عند إجراء المقابلات والمقارنات التي تعقدها المبحوثات بين المراكز التجارية المختلفة، ومن خلالها استطاعت الباحثة أن تتفهم كيف تكون محادثات الصديقات حول كوب قهوة إيطالية أو كيف يتم التبضع لمشتريات محددة ومع من تذهب الفتيات.. إلخ.
ما يفتح عينيك وقلبك في هذا البحث هو كل هذه الفضاءات والممارسات التي نفعلها نحن كسعوديات يومياً، لكنها لا تدفعنا إلى التوقف وتأمل الأبعاد السسيولوجية والأنثربولوجية داخلها، لكن ومع قراءة هذه الدراسة تبدأ الأسئلة الكثيرة وملاحظة التغيير الواضح الذي ظهر على مناخات هذه الفضاءات خلال العشر السنوات الماضية التي قضتها الباحثة ذهاباً وإياباً إلى المملكة عبر مدينة وكما تسميها الباحثة (مرصعة بالموانع والرقابة)!!
المثير في الكتاب ليس الفضاءات التعليمية أو الفضاءات المهنية التي تتعلم أو تعمل المرأة السعودية فيها، وهو قد كتب عنها قبلاً في دراسات اجتماعية أو تربوية، كما لم تتمكن الباحثة بما فيه الكفاية من اختراق الفضاء الثالث وهو المتمثل في الفضاءات الدينية الممتنعة في كل الأحوال على أي دخيل حتى من الداخل فكيف بباحثة فرنسية مهما أتقنت اللغة العربية. وبهذا بقيت الفضاءات التجارية كخيار رابع والمتمثلة في مراكز التسوق والمجمعات الكبيرة الفاخرة مثل المملكة والفيصلية، هي المكان الأكثر إثارة في هذه الدراسة التي تتعرض للأبعاد الاستهلاكية التي أقحمت المرأة فيها تطابقاً مع النموذج الأمريكي الذي تبناه النظام السياسي.
لم يكتب تاريخ الاستهلاك ولا سوسيولوجيا الاستهلاك في المملكة، ومن ثم فما تقدمه الباحثة في هذا المجال يعد مثيرًا وشيقاً يستحق التوقف ويدفع إلى مزيد من التأمل والدراسة بل إن مجرد الانتقال من البيت إلى المجمع التجاري وما يثيره لدى السعوديات من تحفظات وقلق بوجود سائق أو ركوب ليموزين أو القلق على حالة انعدام الأمن.. وكيف حددت عملية إخراج أنماط الحياة المهنية والاستهلاكية داخل الفضاءات العامة التراتبية والمستويات الاجتماعية بين الفتيات المدينيات، مثل نمط التحول من شراء الذهب واستعراضه في الماضي بين النساء للدلالة على الثروة إلى التحول لاقتناء الماركات والعلامات التجارية المعروفة وإقامة حفلات الأعراس التي تشي بالمظهر وتخبر الآخرين عن المستوى الطبقي الذي تنتمي إليه الفتاة، كما أنها وسيلة لأخبار الآخرين حول المستوى الطبقي الذي يمكن للفتاة أن تتوقعه في زوج المستقبل.
في الحق حجم الأسئلة التي يثيرها هذا الكتاب أكبر بكثير مما يتوقع عالم أنثربولوجي أو اجتماعي، ويبقي على فتياتنا أهمية أن يقرأنه بعناية وتبصر ليفهمن هل تمت قيادتهن لا إرادياً عبر طرق اجتماعية وقيمية ومعنية وعرة لم يكن لهن فيها أي خيار.