خروج أمير المؤمنين، الفاروق عمر رضي الله عنه عن الأحكام الثابتة بالنصوص الشرعية ومخالفته لها، رغم حداثته بالعهد النبوي وتشابه الأحوال، هو أمر معروف ومشهور. فهل كان الفاروق يُوحى إليه -تعالى الله عن ذلك - كما حاول بعضهم تأويله بالإلهام، لحديث البخاري « لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر». أم كان الفاروق - وحاشاه- علمانيا لا يرى صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان؟. أم هو قصر لفهم الأمة عن فقه الفاروق وإدارته للدولة -الذي فهمه من الرسول عليه السلام واستحق به هذا الثناء النبوي- لتخلف الأمة في الدراسة التحليلية الشرعية في منهج دراسة فقه الفاروق والصحابة.
وذهبت القرون المفضلة، وعُزلت الأمة عن عبادة ربها على بصيرة وفهم واقتناع ، بتخصيص دين الأميين، دين محمد عليه السلام، فيمن أسموهم «أئمة الزمان وبحار العلوم وحفاظ الدنيا وجبال العلم». فلم يستفد المسلمون من فقه الفاروق إلا النزاع والخلاف.
فمن الأمة، فئة قالت إن ذاك الحق في الخروج عن صريح النص الشرعي، هو حق خاص بالفاروق الذي قال فيه الرسول عليه السلام « لو كان بعدي نبي لكان عمر». فكأنهم بذلك جعلوا أحكام الفاروق في مرتبة الوحي، فترقى إلى أن تنسخ قول الله ورسوله -تعالى شرع عن ذلك علوا كبيرا. وكأنهم بهذا الفهم، أثبتوا التناقض في الشريعة. فهم يستشهدون بحديث « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي». فإن كانت سنة الخلفاء الراشدين مصدرا تشريعيا، فما بالهم لم يأخذوا ببعض آراء الفاروق، وكثير من آراء عثمان وعلي رضي الله عنهم. ولا صحة لما يزعم بأن الصحابة وافقوا الفاروق على آرائه، ثم ادعوا ثبات الحكم بالإجماع. فقد دعا الفاروق على بلال وطائفة معه -رضي الله عنهم أجمعين- نازعوه في ذلك. ولو أُدعي الإجماع، وهو لم يقع، فلا يرقى إجماع الدنيا كلها على نسخ قول الله ورسوله الثابت الصحيح.
ومنهم فئة هي على نقيض الأولى. وهذه مدرسة يقودها شيخ الإسلام بن تيمية، والتي أرجعت الحكم لله ولرسوله. وخصصوا اجتهادات عمر والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم المخالفة لصريح نصوص الصريحة، بهم رضي الله عنهم وبأحوالهم وبأفهامهم، ولم يعمموها على الأمة.
ومنهم فرقة هي على نقيض الفئة الثانية، وهم كثير من المتفقهة المعاصرين الذين قالوا بل هي المقاصد والمصالح. فخرجوا بدعوى فقه المقاصد. فأصبحوا وهم يحللون ويحرمون وينسخون بعض الوحي ويثبتون بعضه بأهوائهم وما يظنونه أنه مصلحة ومقصد دون علم لهم فيه. وقد غلبت علوم الدنيا اليوم أهلها المتخصصين فيها فكيف بالمفتاتين والعالة عليها من المتفقهة. فكثر خطؤهم وجهلهم وظلمهم للأمة وافترائهم على شرع الله. وهؤلاء قد جعلوا من أنفسهم أربابا من دون الله بالتحريم والتحليل بغير نص شرعي ولا قياس صحيح.
ومنهم فئة رابعة هي شريحة غالبة عددا قديما وحديثا، وهم المُقلدة المُحض. وهم مجموعة الفقهاء البسطاء وضعيفي الفهم وذي الدعة والسكون للتبعية فطرة. وهؤلاء جعلوا أقوال شيوخهم فيما نقلوه عن الفقهاء السابقين مصدرا من مصادر التشريع، هذا إن لم يجعلوه أعلاها في بعض الأحيان. يشهد على هذا فعلهم، وتنكر ذلك ألسنتهم. وهؤلاء هم من ضيق على الأمة، وحجر عليها في دينها ودنياها وعقولها. وهؤلاء البسطاء لم يجعلوا أنفسهم أربابا كالفئة الثالثة، فهم بفطرتهم أقل شأنا من ذلك، فلذا جعلوا غيرهم من الفقهاء أربابا من دون الله. وهذا تفسير رسولنا عليه السلام لقوله تعالى «اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله».
ومن يستقريء أحوال الرسول والصحابة ويجمع بين جميع أراء الأمة السابقة وأطروحاتهم، يجد -والله أعلم- أن في فقه الفاروق والخلفاء الراشدين والصحابة، تفريقا بين الغايات والوسائل. فالغاية في الأحكام، لم يتعد عليها أحد من أهل الفضل من القرون الأولى. وأما الوسيلة فهي من باب سد الذرائع، وهي التي ينتفي حكم تحريمها بانتفاء ذريعتها برجوعها إلى أصل الحل. ولذا نشأ الخلاف فيها، بسبب حشر الفقهاء فيما لا علاقة لهم به، فصاحب الذريعة أعلم بها من غيره. وهذه هي سنة الرسول والخلفاء الراشدين من بعده التي أضاعتها الأمة. فترى الأمة من بعدهم، وهي في تبعيتها العمياء لفقهائها، تحلل ما تحريمه تحريم غاية بحيلة أو دعوى حاجة، وتضيق على الأمة بالتشديد في تحريم ما تحريمه تحريم وسيلة رغم زوال ذريعته. وترى الأمة وهي تحرم ما ليس حراما أصلا، بفهم خاطئ، لسد ذريعة ارتأتها عقولهم القاصرة. فسد الذرائع هي أحكام منزلة من الوحي تُحرم الأصل -وهو الجواز-، بنص شرعي لا برأي أحد. وفعل الفاروق في الطلاق الثلاث في تضييق واسع وسعه الله، هو إجراء إداري لا حكم شرعي.
وهذا مما اختلط على الأمة فيه في فهم فقه الفاروق، فهم لم يفرقوا بين القرار الإداري والحكم الشرعي. فقد حشروا الفقهاء في شئون إدارة الدولة، فاختلط الدين بالسياسة، فتسيس الدين، ففسد دين المسلمين ودنياهم. ومن الأمثلة، أنهم يستدلون على جواز أخذ الأجرة على الفتيا والفقه بأخذ أبي بكر رضي الله عنه نصف شاة يوميا عندما تولى الخلافة. وهذا من الخلط، فالصديق أخذ الأجرة على إدارة الدولة لا على بذل الفتيا والفقه، فالدين لا يُقتات به ولذا فسدت ذمم كثير من المتفقهة ورجال الدين.
والله أعلم
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem