|
الرياض - «الجزيرة»:
المساجد بيوت الله وأحب البقاع إليه، أضافها الله - عزَّ وجلَّ - إلى نفسه إضافة تعظيم وتشريف، فقال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (18) سورة الجن. وقال عليه الصلاة والسلام: (أحب البلاد إلى الله مساجدها)، ولمّا كان للمساجد هذه الأهمية توجّبت العناية بها من تشييد وعمارة وصيانة وإكرام عن ما لا يليق بها، وتوظيفها التوظيف الأمثل؛ لتؤدي رسالتها العظيمة التي اختصها الله بها.. حول دور المساجد في رعاية الأمة وصلاحها، وفضل العناية بها.. تحدث عدد من أصحاب الفضيلة أساتذة الجامعات المتخصصين في الدراسات الشرعية.
بناء حسي ومعنوي
يقول الدكتور إبراهيم بن ناصر الحمود الأستاذ بالمعهد العالي للقضاء بالرياض: إن بناء المساجد له معنيان: حسي، ومعنوي، أما البناء الحسي فهو عمارتها وتشييدها؛ لتكون محلاً لإقامة صلاة الجماعة، وقد ورد بيان فضل ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة)، والبناء المعنوي: هو إقامة ذكر الله فيها وعمارتها بالطاعة، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} (36 - 37) سورة النور.
وللمساجد رسالة جليلة في حياة الأمة، فهي مكان العبادة، وهي ملتقى العلم والمعرفة، وهي دور الثقافة ومأوى الأفئدة، كيف لا؟ والمسلمون يفدون إليها في اليوم والليلة خمس مرات مهلّلين مكبّرين مسبّحين يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم، قد ملئت قلوبهم بنور الإيمان وطاعة الرحمن، على قلب رجل واحد لا فرق بين عربي ولا أعجمي، ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى، هكذا تتجسد فيهم روح المحبة والإخاء، ويسودهم خلق التسامح والعفو والصفاء، لما لبيوت الله من روحانية تعمر بها القلوب، وتزكو بها النفوس، فضلا عما يقام في تلك المساجد من دروس علمية وحلقات لتحفيظ القرآن الكريم، الأمر الذي يكون فيه المسجد مدرسة إيمانية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، فدور المساجد لا يقتصر على الصلوات الخمس فحسب، بل هي منبر إسلامي له دور مباشر في الدعوة إلى الله من خلال الإمامة والخطابة، وأثرهما في التوجيه والإرشاد للأمة.
وما أحوج المسلمين اليوم إلى تأليف القلوب وجمع الكلمة، ومعالجة قضايا الأمة بالعقل والحكمة، فنحن اليوم في عصر يموج بالفتن والتيارات الفكرية المنحرفة، فما أحوجنا إلى التعاون والتكاتف والاجتماع والألفة، ونبذ الخلاف والفرقة، ويمكن أن توظَّف خطبة الجمعة في المساجد لهذا الغرض، فيحصل التأثير الإيجابي على حياة الأمة من خلال رسالة المسجد في الإسلام، وما لها من دور فاعل في إبراز سمات الإسلام وخصائصه، كاليسر، والعدل، والسماحة، والمساواة، والسمع، والطاعة، والوفاء بالحقوق، والبعد عن مواطن الشبهات والشهوات بأسلوب علمي بعيد عن التشدّد والغلو، فالرفق واللين لا يكون في شيء إلا زانة، ولا ينزع من شيء إلا شانه. وهو بهذا يقرّر المصالح العظمى للأمة، ويدرأ عنها المفاسد والشرور.
ولا يخفى على مسلم فضل العناية بالمساجد والمحافظة عليها، والقيام على خدمتها فهي بيوت الله، ولا يغيب عن أذهاننا قصة تلك المرأة السوداء التي كانت تقم المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما ماتت قال عليه الصلاة والسلام دلّوني على قبرها فصلى عليها بعد دفنها، وهذا يدل على فضلها بسبب خدمتها للمسجد، وما أحوجنا اليوم إلى هذا السلوك تجاه مساجدنا وصيانتها والقيام عليها وتوفير كل ما تحتاجه من خدمات، وهذا واجب كل مسلم ولا يقتصر الأمر على الجهات الرسمية المسؤولة في وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، لأن عمل الخير ليس حكراً على جهة بعينها، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (26) سورة المطففين.
بناء الأمة والنفوس
ويشير الدكتور صالح بن عبدالله الفريح أستاذ الدراسات العليا بقسم الدعوة والثقافة الإسلامية بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى، إلى الأدوار العظيمة التي ينهض بها المسجد في حياة الأمة؛ إذ يعد البيت الجامع الذي تهفو إليه القلوب، وتصفو فيه الأنفس، ومما يدل على مكانته ومنزلته كون المصطفى عليه وآله الصلاة والسلام بدأ به أول قدومه للمدينة، فبناه وأسسه، ومن المعلوم المؤكّد من هديه أنه كان يبدأ بالمسجد عند عودته من سفرة وقدومه على بلده، وفي المسجد تبنى الأمة، وتؤسس النفوس على ما يحبه الله ويرضاه، ففيها تُقام الصلاة، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (36 - 37) سورة النور.
وفيها يلتقي المسلمون فيتعارفون ويتوادون ويقفون كالبنيان المرصوص تصطف أجسادهم وقلوبهم، ولاشك أن لقاء المسلمين ومصافحتهم لبعضهم وتوحّدهم في أداء عمل واحد، مما يورث المودة في القلوب والمحبة في النفوس، وفي المساجد تُقام حلق العلم، وتتلى فيه آيات القرآن، وتفسر ويتعلم الناس فيها العلم النافع. وفيها تُقام خطب الجمع والعيدين والاستسقاء وغيرها، ويستمع الناس فيها للمواعظ التي ترقق القلوب، وتلين النفوس، وتعيدها إلى خالقها وباريها جل في علاه. فيها تُقام حلق تحفيظ وتعليم القرآن الكريم، فينشأ الأبناء والبنات على كلام الله يتعلِّمونه، ويتدارسونه. إلى غير ذلك من المهام الجسام التي يقوم بها المسجد في حياة الناس، حتى لقد أثَّر هذا الأمر في رجل كافر وكان السبب في إسلامه وذلك في الحديث الذي رواه الإمام مسلم: أن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم بعث خيلًا قبلَ نجدٍ. فجاءت برجل ٍمن بني حنيفةَ يقال له ثُمامةُ بنُ أُثالٍ. سيدُ أهلِ اليمامةِ. فربطوه بساريةٍ من سواري المسجدِ. فخرج إليه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: (ماذا عندك، يا ثُمامةُ؟) فقال: عندي، يا محمدُ! خيرٌ. إن تقتُلْ تقتلْ ذا دمٍ. وإن تُنعِم تُنعِمْ على شاكرٍ. وإن كنتَ تريد المالَ فسلْ تُعطَ منه ما شئتَ. فتركه رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. حتى كان بعد الغدِ. فقال (ما عندك، يا ثمامةُ؟) قال: ما قلتُ لك. إن تُنعِمْ تُنعِمْ على شاكرٍ. وإن تقتُلْ تقتُلْ ذا دمٍ. وإن كنتَ تريد المالَ فسلْ تُعطَ منه ما شئتَ. فتركه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى كان من الغدِ. فقال: (ما عندك؟ يا ثمامةُ!) فقال: عندي ما قلتُ لك. إن تُنعِمْ تُنعِمْ على شاكرٍ. وإن تقتُلْ تقتُلْ ذا دمٍ. وإن كنت تريدُ المالَ فسلْ تُعطَ منه ما شئتَ. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم :(أَطلِقوا ثُمامةَ) فانطلق إلى نخلٍ قريبٍ من المسجد. فاغتسل. ثم دخل المسجدَ، فقال: أشهد أن لا إله إلا اللهُ وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه. يا محمدُ! واللهِ! ما كان على الأرض وجهٌ أبغضُ إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهُك أحبَّ الوجوه كلِّها إليَّ. واللهِ! ما كان من دينٍ أبغضَ إليَّ من دِينِك. فأصبح دينُك أحبَّ الدينِ كلِّه إليَّ. واللهِ! ما كان من بلدٍ أبغضَ إليَّ من بلدِك. فأصبح بلدُك أحبَّ البلادِ كلِّها إليَّ. وإنَّ خيلَك أخذَتْني وأنا أريد العمرةَ. فماذا ترى؟ فبشَّره رسولُ اللهِ صلى الله عليه ولم. وأمره أن يعتمرَ. فلما قدمَ مكةَ قال له قائلٌ: أصبَوتَ؟ فقال: لا. ولكني أسلمتُ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. ولا، واللهِ! لا يأتيكم من اليمامةِ حبةُ حنطةٍ حتى يأذن فيها رسول ُاللهِ صلى الله عليه وسلم.
الفضل العظيم
ويؤكّد د. الفريح أن العناية بالمساجد لها فضل عظيم، وأول ذلك بناؤها والاهتمام بها مع عدم المبالغة المنهية عنها، بل يعتنى بتوفير ما يمكن المسجد من القيام بدوره كمكان للعبادة، واجتماع الناس على الهدى والخير، وقد جاء في الحديث الصحيح: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من بنى لله مسجداً، بنى الله له بيتا في الجنة)، ومن العناية بها الحرص على نظافتها وإقامة شعائر الله بها وتهيئتها لكل عمل يحبه الله تعالى، لا سيما تعليم العلم، وتدريس القرآن الكريم وغير ذلك، ويدل على عظم هذا الأمر وكونه عظيم الأهمية ما جاء عند مسلم أنَّ امرأةً سوداءَ كانت تَقُمُّ المسجدَ، أو شابًّا، ففقدها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فسأل عنها، أو عنه، فقالوا: مات. قال: (أفلا كنتُم آذَنْتُموني). قال: فكأنهم صَغَّروا أمرَها أو أمرَه. فقال: (دُلُّوني على قبرِها) فدَلُّوه. فصلَّى عليها.
إجلال وتقدير
وقال أ. د. عبد الرحيم بن محمد المغذوي الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: إن المساجد بيوت الله التي أذن برفعها وتشييدها، وذكره سبحانه فيها، كما قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} (36) سورة النور.
وأول عمل قام الرسول صلى الله عليه وسلم حين وصوله من هجرته المباركة إلى المدينة المنورة هو تأسيسه لمسجد قباء والمسجد النبوي الشريف ومنذ ذلك الوقت والمسجد يقوم بوظائفه في رعاية الأمة الإسلامية والاهتمام بشؤونها وإصلاحها من خلال الخطب والمواعظ والدروس العامة والخاصة وحلق تحفيظ القرآن الكريم والدورات العلمية، وإقامة الصلوات والجمعة والأعياد وغيرها من المناشط التي ترفع من الوعي الديني لدى مرتادي المسجد.
ومن هنا حث الإسلام على العناية بالمساجد مبنى ومعنى وتشييداً وتأييداً وإفادة واستفادة مع المساهمة في تعظيم بيوت الله، واحترامها؛ لأنها شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (32) سورة الحج.
وكان رسولنا ونبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم شديد العناية بالمساجد والحرص على رعايتها ونظافتها وتطهيرها وإعدادها إعداداً لائقاً بالمصلين، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة الحسنة، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (21) سورة الأحزاب.