من التقنيات التي انتشرت الآن أجهزة تحديد المواقع، أو ما يسمى «جي بي إس»، التي توجد إما مباشرة في السيارات، أو تُشترى بوصفها جهازاً مستقلاً، وصارت هذه التقنية الآن أيضاً في أجهزة الهاتف المتنقل؛ فصار المرء يحمل خرائط الكوكب في جيبه، وهذه رغم أنها من عجائب هذا العصر - والكثير لا يكترث لمدى غرابة هذا الشيء لو تأملوه - إلا أنها ليست بالضرورة شيئاً إيجابياً؛ فالتقنيات الحديثة رغم أنها أراحتنا من الكثير من المهام الجسدية والعقلية إلا أنها حرمتنا من منافع أخرى عظيمة، فمثلاً انتشار وسائل المواصلات منعنا من كثرة الحركة؛ وهكذا زادت السمنة والأمراض الكثيرة المرتبطة بقلة الحركة، مثل السكر وأمراض القلب، وأجهزة الكمبيوتر مكَّنتنا من إنجاز أشياء عظيمة، لكنها أجبرتنا على الجلوس ساعات طويلة، وما يتبع ذلك من ترهُّل وضَعف في الجسم، عكس أجدادنا الذين كانوا أقوياء الجسد؛ بسبب قلة جلوسهم وكثرة تمرينهم لعضلاتهم بالعمل اليومي وكثرة المشي.

ولكن لا تقتصر أضرار التقنية على الجسم فقط، بل امتدت لكل شيء؛ فهناك ضررها النفسي، وهذا رأيناه في بعض مقالاتنا السابقة التي بيَّنت - اعتماداً على أبحاث حديثة - مدى الضرر الذي سببته التقنية للنفسية البشرية؛ فصارت التقنية تعزلنا، وتجبرنا على قضاء أوقات طويلة في أماكن معزولة مثل المكاتب والغرف؛ ولا نحتك كثيراً بالبشر إلا بشكل آلي بارد لا حياة فيه؛ وهذا من أسباب الانتشار الهائل للمرض النفسي في هذا العصر. وأظهرت دراسات علمية أن كثرة استخدام الإنترنت ترتبط بأمراض نفسية، منها أشياء بالغة الألم والخطورة، مثل الاكتئاب. وليت أضرار التقنية تتوقف عند هذا الحد؛ بل حتى بدأت تسلبنا ذكاءنا! فجهاز الخرائط وتحديد المواقع الذي ذكرناه في العنوان يحرم العقل من أن يرسم خرائطه الخاصة به، وهذه من قدرات العقل التي يجهلها أو يستهين بها الكثير من الناس؛ ذلك أن المخ بارعٌ في رسم الخرائط العقلية، وهي قدرة بدأت الأبحاث في إظهار قوتها؛ فأجهزة جي بي إس لا تعمل كما يعمل العقل؛ ذلك أن العقل يسجِّل المعالم التي بينك وبين وُجهتك؛ فمثلاً لو أردت معرفة الطريق من بيتك إلى مكتبة عامة فإنك تتذكر أنك تخرج من بيتك ثم تأخذ شارعاً لليمين ثم تستمر إلى أن ترى مسجداً فتنعطف يساراً حتى يقابلك مكان حلاقة تعرف أن المكان المطلوب بعده بأمتار. هذا في العقل، لكن أجهزة جي بي إس تحرم عقلك من هذه القدرات، فهو يُهمِل المعالم كلها، ولا يركز إلا على مكان الانطلاق ومكان الوصول، وكلما زاد الاعتماد على هذا الجهاز ضعفت القدرة التي أودعها الله في عقولنا لصنع خرائط عقلية.

قدر الاستطاعة حاوِل أن تستخدم عقلك في تحديد الأماكن ووصْفِها للآخرين؛ فيكفي أنه حتى الحسابات البسيطة، مثل الطرح والضرب، صرنا لا نفعلها إلا بعد استشارة الآلة الحاسبة في الهاتف المتنقل، وهو نوع آخر من إهمال العقل وإضعاف قدراته. فلنُعطِ عقولنا بعض التشجيع، ولنجعلها تستخدم قدراتها البديعة.