قال لي منفعلاً: شعرتُ اليوم بتباعدٍ كبير بيننا وبين أجيالنا الجديدة، وبانقطاع نفسي آلمني، وأشْعرني بأننا مقصرون في تربيتنا لأولادنا.
قلت له: هدِّئ من رَوْعك وأخبرني بالسبب الذي دعا إلى ذلك.
قال: مررتُ قبل أن آتي إليك بخمسة من الشباب أمام
مطعم من مطاعم الوجبات السريعة، يحمل كل واحد منهم (شطيرة) في يده اليسرى وعلبة بيبسي كبيرة في اليد اليمنى، ويرتدون ملابس رياضية تنحسر عن الركبة كثيراً، وعلى صدورهم خربشات ملوَّنة وعبارات غرامية بحروف إنجليزية كتبت بطريقة عشوائية، وهم يتضاحكون بأصوات عالية جدَّاً، وكأنهم يعيشون وحدهم في هذا العالم.
أوقفت سيارتي، ونزلت إليهم وقد أخذتني الحميَّة، وملك إحساسي بالمسؤولية عقلي وقلبي.
توجهت إليهم، وقد جاهدت نفسي كثيراً لتخفيف حدَّة انفعالي ووقفت أمامهم، وهم في ضحكهم العالي ماضون، فقلت: السلام عليكم، ويا لهول المفاجأة، فقد رمقوني بنظرات تدل على استهجانهم لي، وقال أحدهم وفمه ممتلئ بما نهشه من تلك الشطيرة التي يمسكها بشماله: (خير، فيه شيء؟!) والآخرون ماضون فيما هم فيه من الضحك.
قلت: أحببت السلام عليكم والحديث معكم، فرمقوني بأعيُنٍ حدادٍ وقال المتحدث: من متى المعرفة، وأردف قائلاً (والله، لقافة)، وضحك الجميع عليَّ ضحكاً أشعرني بغربة شديدة بيني وبينهم، وهممت أن أنصرف كليلاً مهزوماً، ولكن أحدهم تقدَّم إليَّ، وقال لي بلطف: تفضَّل بما تريد، فهدأتُ نفسي بالرغم من أنَّ الأربعة الآخرين واصلوا ضحكهم، ونظراتهم المستهجنة الساخرة.
قلت: يا بني، أنتم مسلمون، ومن أسر كريمة -كما أظن- وهذه الحالة التي أنتم عليها لا تليق بشباب مسلمين تربَّوا على قيم وأخلاق فاضلة.
كان يستمع، وانضمَّ إليه البقية في الاستماع بعد أن هدأ ضحكهم، وأنا لم أستطع إخفاء الارتباك الذي حصل لي.
قال أحدهم: هل ضايقناك في شيء؟ قلت: نعم، صراخكم، ضحكاتكم، ملابسكم، طريقة أكلكم، عدم مراعاتكم لمن حولكم من الناس.
قال أعقلهم: (ما تشوف إنك بالغتَ وتدخَّلْت فيما لا يخصُّك)؟ كأنَّما سكب عليَّ ماءً بارداً بقوله، إي والله لقد شعرت بأنني أتحوَّل إلى جسد باردٍ شكلاً ومضموناً، حتى صعب عليَّ الكلام، وبقيت جامداً في مكاني، وهم يركبون سيارتيهم، وقد عادوا إلى حالتهم السابقة من الضحك العالي، وأسمعوني (إيقاع) تفحيطهم) المزعج وانصرفوا.
أهولاء أبناؤنا؟ أين عوائلهم وولاة أمورهم؟ أين أساتذتهم ومعلِّموهم؟ أين أئمة المساجد والوعَّاظ عنهم؟ إلى أين نحن ذاهبون بأنفسنا ومجتمعنا وأولادنا؟؟ أين الآباء والأمَّهات الذين يحملون أمانة التربية والتوجيه؟؟ لماذا نُصِرُّ على الوصول بأجيالنا إلى نهاية طريق العبث واللَّهو وعدم الشعور بالمسؤولية؟؟.
قلت له: صدقتَ في كلِّ ما قلت، ولكنَّ المشكلة كبيرة لا يمكن أنْ تعالج بالانفعال، بل لابدَّ من وضع خطط سليمة لإعادة صياغة أساليب التربية والتعليم، وتنفيذها مباشرةً حتى لا نفقد أجيالنا الذين يتعرضون لآلاف الوسائل المدمرة فكرياً ونفسياً، وقبل ذلك كله (عقدياً) في هذا العصر المتلاطم.
إشارة: صرخة في آذان الغافلين.. هيا إلى استعادة أولادنا قبل فوات الأوان.
towa55@hotmail.comaltowayan@ :تويتر