كثيرون أولئك الذين آمنوا - وما زالوا يؤمنون - بأن الليبرالية الغربية هي رائدة الحرية والمساواة والتسامح في العالم كله، وأنها راعية حقوق الإنسان، صاحبة المبادئ والقيم، مؤيدة التعددية، والتنوع الثقافي، حامية حمى الرأي والرأي الآخر، وغير ذلك من العناوين البراقة التي ربما تكون مفهومة ممارسة في المجتمعات الغربية، لكنها خارج حدود تلك المجتمعات مجرد دعاية إعلامية، حلقت بالمنهزمين ثقافياً وحضارياً في فضاءات من السراب، وخدعتهم بل خدرتهم عن رؤية الحقائق وإدراك مضامينها. قد تكون هذه القناعات مفهومة بين بني جلدة أولئك القوم، لكن لا يمكن فهم هذه القناعات ولا تبريرها عند أولئك الذين يسيرون في الفلك بسبب التخلي عن الهوية الثقافية والحضارية التي ينتمون لها فكراً وسلوكاً.
الغريب في الأمر أن هذه الدعاوى الفارغة فشلت، وكشف زيفها الكثير من الأحداث الدامية بل المأساوية في أكثر من بلد، فالصومال الدامية، والبوسنة المكلومة، وسوريا الجريحة، كلها شواهد على أن العناوين التي تتشدق بها الليبرالية الغربية عامة والأمريكية على وجه الخصوص عن حقوق الإنسان مجرد فقاعات إعلامية جوفاء، فالصومال لم يلتفت له حتى الآن، بل ترك يغرق في بحور من الدماء والاقتتال اليومي دون أن تتحرك مشاعرهم الإنسانية المزعومة، والسبب معروف بطبيعة الحال، فنظراً لكون هذا البلد فقير الحال؛ وبالتالي انتفت المصالح المرجوة فيه، لهذا لا يهمهم من يقتل؟ وكم يُقتل؟ ولماذا يُقتل؟ وعندما بلغت الجرائم الحلقوم في البوسنة والهرسك على أيدي الصليبيين الجدد، وصارت صور القتل والتشريد ملء السمع والبصر، اضطروا للتدخل، ليس دفاعاً عن المظلومين، أو انتصاراً لحقوق الإنسان المنتهكة بكل صور الفجور، بل لكون ما يحصل تجاوز كل الحدود حتى الحيواني منها، لم يتدخلوا لتحاشي الفضيحة؛ ففضائحهم أكبر من أن تغطى، ولا لإثبات الذات في الدفاع عن الحقوق التي يرفعون لواءها عند الحاجة، بل لأن الطرف الآخر الذي أطلقوا له العنان حقق مطالبه.
ولمن نسي أحداث البوسنة، أو تناساها، ها هي سوريا الجريحة الآن تنزف الدم البريء يومياً، وبالمئات، وتُدمَّر مبانيها وبنيتها التحتية بدون هوادة، ولم يحرك الغرب ساكناً، ولن يحركوا ساكناً حتى تتحقق الغايات التي ينشدها الجار الصهيوني من إنهاك سوريا وتحطيمها مادياً ومعنوياً؛ لتنشغل في نفسها سنوات وسنوات، تلعق جراحها، وتبني ما هدمته آلة البغي الصفوي.
ومع هذا، فليمكروا كما يشاؤون، وليغضوا الطرف كما يشتهون، وليسوغوا لأنفسهم ما يظنون، لكن على الغرب عامة والمتدثرين بعباءتهم أن يعلموا علم اليقين أنه سيتمخض عن إطالة أمد الأحداث المأساوية في سوريا وعن غض الطرف عنها الكثير من الحكم والدروس والعِبر التي بدت، والتي ما زالت تتبدى كل يوم. إن المشاهد البطولية لتحرير سوريا من العصابة الفاشية الدموية المجرمة، العصابة التي جثمت على أنفاس السوريين وكتمتها أكثر من خمسين عاماً، تؤكد أن أحلام إيران الصفوية المجوسية، ومطامع روسيا الفاشية، ومخاوف الصهاينة والمتصهينين، كلها سوف تتحطم على صخرة إرادة الشعب السوري الحر الأبي، ولن تقوم للمجوس قائمة في بلاد الشام، ولن يتمتع الدب الروسي بمياه البحر المتوسط الدافئة، ولن تهنأ الصهيونية التي طالما نامت عن جرائمها في الجولان عيون الجباء من عائلة الأسد وزبانيته وعملائه.
سيعلم مجوس إيران أن كل ليرة أنفقوها على دميتهم في سوريا سوف تنقلب عليهم حسرة وندامة، وعليهم أن يتدبروا هذه الآية {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون، والذين كفروا إلى جهنم يحشرون}. وعلى الدب الروسي أن يعي أن سوريا الغد حرة، تختلف تماماً عن سوريا المستعبدة، وعلى حماة الصهاينة أن يدركوا أن اللحى السورية التي يخشونها تعتز بدينها، وتفخر به، وأنهم فائزون، وأنتم الأخسرون؛ فقد خسرتم أكبر عنوان تتدثرون عباءته (حقوق الإنسان)؛ إنكم ترعون مصالحكم وحقوقكم، ويكفي ثوار سوريا فوزاً أنهم عروكم وجردوكم من عباءتكم القذرة التي لم تعد صالحة للتسويق.
assahm@maktoob.com