** حين سعت فئةٌ من الخوارج للتمرد في عهد “الخليفة عمرَ بنِ عبدالعزيز رضي الله عنه” طلب من زعيمهم المناظرة “ما دام خروجُهم غضبًا لله ولرسوله”؛ “فإن يكن الحقُّ معنا دخلتَ معنا فيه وإن يكن الحقُّ معك ننظر في أمرنا”، ويروي المؤرخون أن هذه الفئة ألقت سلاحها واستجاب زعيمُها للحوار.
** التزم الخليفةُ العادل بما تفرضه أصولُ الحوار من التكافؤ بين المتحاورين بحيث لا تجيء مقدمتُه ناطقةً بنتيجته، وكأن الهدفَ إبلاغ رسالةٍ ذي اتجاهٍ واحدٍ لتأكيدِ حيدة الطرف المقابل عن الحق، وقسرِه على التسليم بخطئه قبل تجسير المسافة عبر المشتركات (الغضب لله ولرسوله) ووسيط التلاقي (المناظرة المباشرة) وفتح النتائج على كل الاحتمالات (الحق المترجّح بينهما).
** مفهومٌ أقره القرآن الكريم (وإنا أو إياكم) في منهجيةٍ غائيةٍ موصلةٍ إلى تمييز الهدى من الضلال، ولو أعدنا قراءةَ الوقائع لرأينا مسافاتٍ فاصلةً لا روابط واصلة؛ فغالب تأريخِنا الثقافي طرقٌ مغلقةٌ هدفها تأنيبُ الجانب الآخر لانحراف توجهاتِه وجذبُه عنوةً إلى الضفة المقابلة، وهو ما يتنافى مع مرتكزات الحوار تأصيلاً وتفصيلاً.
** لم نأتِ من فراغ؛ فقدر بعضنا الضيقُ بالرأي المخالف والتشكيكُ فيه وتقديمُ سوء النية ومحاولةُ تسفيه الآخر وربما النيل منه، وهو إرثٌ عربيٌّ منذ ظهرت الطوائف والملل ومذ تأول المتحكمون والمحتكمون عبر لغةٍ تبريريةٍ تأذن لهم بتوظيف سلطاتهم الشرعية والعرفية والرسمية لقمع الأصوات الخارجة، ومحنةُ خلق القرآن واجهةٌ معتمة امتدت عقودًا، وفي سواها ما يشبهها، وللقاضي الأندلسي “أبي بكر ابن العربي صاحب العواصم من القواصم” تعبيرٌ يمثل هذا التوجه؛ فقد نقل أقوالاً لفرقة” الغُرابية” وقال: إنها “كفر بارد لا تسخنه إلا حرارةُ السيف فأما دفء المناظرة فلا يؤثِّر فيه”.
** المقابلة هنا بين مبتدأ “طقوسيٍ” تسكنه برودة المُضاد وحرارةُ السيف ودفءُ المناظرة، وخبرٍ نكوصيٍ يُسلمه لتسريعِ الانفجار وابتسار الحوار، وهو سبب الاحتراب القولي المفضي إلى الصدام العملي بين مكونات الأمة المتباعدة وربما امتد للأدنين ففرَّقَ ومزق.
** جذور المشكلة تعود إلى اختلاف الأهداف بين الطرفين وتضاؤلِ الثقة بينهما، وتجاهلِ نظريات التفاوض التي تؤكد أن الأطراف تتواصل مع ما يماثلها أكثرَ مما تفعل مع من يخالفها، مثلما تتأجج العواطف داخل مساحات الاختلاف فتُشيع القلقَ والتوتر والحيرة، وتفرز تصوراتٍ انطباعيةً خاطئةً عن الآخر، ويتضاعف التعميم والتعمية في أصول وفصول القضية مما يضخم نطاقات الفرقة ويُقزِّم نقاط التلاقي، ويزداد تمسك كلِّ طرفٍ بموقفه فيستعر الصراعُ المفضي إلى القطيعة التامة، وهي معطياتٌ يدرسها طلبة الإدارة ويحتاج المعنيون بالحوار إلى تأملها واستقاء مخارجَ منها.
** في الحوار سعيٌ لخلق جديدٍ يصلح أرضيةً مشتركة يقف عليها المختلفون، ووعيٌ بتجسير دروبٍ تحملهم إلى حيث لم يعتادوا، وربما وقفوا غير بعيدين من بعضهم لا يتصافحون كما لا يتصافعون، لكن المشكلة حين نظن الحوار دروسًا في الإملاء هجيراها تكوينُ أشياعٍ من المستنسخين.
** الحوار تفاعل.
ibrturkia@gmail.comt :@abohtoon