لأسباب عديدة لا يزال المجتمع يعيش في دوامة أيديولوجية، وقد أستطيع القول إن الغالبية، وإن لم يكن الجميع، لا يزالون يفكرون من خلال عقل أيديولوجي متآمر وعبر مسلمات غير قابلة للتغيير، والسبب أن العقل لا يزال مغيب في طريقة تفكير الإنسان في المجتمع السعودي، لهذا السبب بشكل رئيسي، ولأسباب أخرى، تغيب الوطنية عن الوعي العام، لأن الخطاب العام والخاص لا يزالان يعيشان في دائرة مغلقة أبعادها إما العمى الإيديولوجي أو المصالح المبنية على الخطاب الأيدلولوجي.
يتقاطع في هذا الطريق المسدود مختلف الفئات في المجتمع، لكن يتصدر هذه القائمة المؤدلجون بالأفكار الدينية، والتي عادة ما تُخضِع مريدها لمسارات غير قابلة للتداول والحوار، وذلك من أجل أن تستغل أتباعها للانسياق خلف مصالحها الغائبة عن الخطاب الديني. لهذا السبب دائماً ما يقع البسطاء في هذا الشرك، وقد تكون نتيجة ذلك خروج عن مصالح الوطن العليا. وقد تعرض المجتمع لخطابات شديدة التطرف من مختلف الطوائف في المجتمع، ولكن يظل التساؤل الأعمق عن الحل للخروج من هذا المأزق الفكري.
لا يمكن الخروج من هذا المأزق إلا بإخراج الخطاب الأيديولوجي من الخطاب العام، وطرح الأفكار للتداول وإعادة ترميمها من خلال لغة الإصلاح الحقيقي، وذلك لقطع الطريق أمام الذين يبحثون عن الخلاص من خطاب مضاد للخطاب العام، ولعل القضايا المتلاحقة في هذا الشأن تستوجب البدء في الحل الجذري، إذ ليس من مصلحة الوطن أن تتقاطع الخطابات الأيديولوجية مع مصالحه العليا وأمنه القومي. ولا تعتبر هذه الأزمة طارئة، ولكن لها علاقة بالعقل السياسي المتأزم عبر تاريخ المسلمين، وتمتد إلى القرون الأولى عندما أفترق الناس إلى طوائف متناحرة، لا تحكمها إلا القبضة الحديدية، وإذا تراخت قليلاً أنقضوا عليها كالذئاب التي تنتهك عرض الفريسة.
ما يحدث في مصر الآن هو صراع أيديولوجي بامتياز، فالقوى الوطنية أصبحت تعيش في رعب الحصار الأيديولوجي الذي يعمل الأخوان من أجل فرضه على الساحة. ومن أجل تخرج مصر من هذا الحصار لا بد من إخراج الأفكار التي تفرق الناس سياسياً على أساس أيديولوجي، لأنه لا يصح أن ينقسم الوطن إلى إخوان مسلمين وإلى غير مسلمين، أو تنقسم لبنان إلى حزب لله وآخرين أتباع للشيطان أو غيره، وفي ذلك اختزال للفضيلة والحق في فرقة محددة، ثم إخراج الآخرين منه بسبب اختلافهم الفكري أو الطائفي.
كذلك وقع في هذا المأزق القوميون العرب الذين استنسخوا فكرة الدولة القومية من أتاتورك، وأدى ذلك إلى فصل المجتمع إلى ناصري وغير ناصري، وإلى بعثي أو إلى غير بعثي، وكانت النتائج كارثية بكل ما تعنيه الكلمة، ولا زالت المجتمعات العربية تعاني من ذلك، ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد وصل إلى الحكم في سوريا فكرة أيديولوجية مركبة من الطائفية والبعثية العربية، وكانت بمثابة الجحيم لذلك المجتمع المسالم، وقد حولته القبضة الحديدية إلى متمرد لا يفكر إلا في الانتقام من معذبيه خلال العقود الماضية.
في زمن مضى في المجتمع السعودي تم تقسيم المجتمع من قبل جماعات سياسية دينية، إلى طيبين وغير طيبين، وكان المرء يسمع دائماً مصطلح الإخوة الطيبين، وكأن البقية خبثاء وأعداء للدين، وكان لذلك الخطاب المتطرف أثر بالغ أدى به في النهاية إلى خروج الإرهاب الديني، وساعده في الانتشار بعض التسهيلات الاقتصادية والسياسية والتي خرج من خلالها المارد، الذي لا يزال حراً طليقاً، ويبحث عن أحلامه السياسية، ولم يأت ذلك من فراغ فالخطاب الديني المتشدد تأثر كثيراً بالثورة الدينية في إيران، والتي صرحت علناً في ذلك الحين عن مهمة تصدير الثورة إلى الخارج، وقد نجحت في بعض البلدان المجاورة.
هذا الخطاب الثوري المودلج لن يوقفه خطاب مؤدلج آخر، ولو كان ذلك هو الحل لكانت القاعدة، النسخة السنية من الثورة الإيرانية، هي الخطاب البديل في عقول الناس، لكن الحل يجب أن يكون أكثر تقدماً منهم، وأن يتم تقديم فكر الدولة على الفكر الطائفي، وذلك عبر تقديم الخطاب المدني وإقرار آليات المجتمع المتحضر، وفي ذلك الحل ستخرج الأفكار السوداء من مخابئها، وستموت تحت الأضواء لأنها لا تقوى أن تعيش تحت أشعة شمس الحرية.