الرياض - خاص بـ(الجزيرة):
من السلبيات التي يعيشها عالمنا المعاصر، وبدأت تظهر بوضوح في المجتمعات الإسلامية التفكك الأسري.. وما يتبع ذلك من نتائج خطيرة على الفرد والمجتمع مما قد يؤدي في النهاية - لا سمح الله - إلى تحلل المجتمع وذوبانه وفساده.. كما حصل في عدد من المجتمعات الغربية والشرقية.. ولا شك أن هذه الظاهرة تتطلب المواجهة والتصدي إذا أُطلق عليها تجاوزاً ظاهرة.. حيث إن للمؤسسات التربوية والاجتماعية والمساجد والجوامع دوراً في علاج ذلك.. «الجزيرة» التقت بعدد من ذوي الاختصاص للتحدث عن ذلك، ولتقديم الوسائل المثلى لإعادة وحدة الأسرة، وتماسكها.
التفكك الأسري
في البداية تُؤكد الدكتورة أمل الغنيم الأستاذ المساعد بقسم الدراسات الإسلامية في جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن بالرياض أن التفكك الأسري داء خطير يصيب جسد الأسرة المسلمة فيفكك وصالها، ويشتت شملها ويجرها إلى أوحال الانحراف والفساد، ومن أهم أسباب انتشاره ما يلي:
1 - ضعف الإيمان والبعد عن الله تعالى والانغماس في الترف وملذات الدنيا ونسيان الآخرة.
2 - التفريط في تحمل المسئولية من الأب والأم قال صلى الله عليه وسلم: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».. رواه البخاري.
فإذا تخلى الأب عن دوره والأم تخلت عن دورها في الأسرة سيحدث شرخٌ يؤدي إلى ضياع الأبناء وانجرافهم إلى أصدقاء السوء.
3 - وسائل الاتصال الحديثة والإعلام، لهما دور كبير في إحداث التفكك، فلا بد من الرقابة والمتابعة من الوالدين لأبنائهما وتوفير الإعلام الهادف حتى لا يفسد البناء وتخدش التربية بوسائل الإعلام المسمومة التي تقضي على الأخلاق والقيم.
4 - تبادل الأدوار من الأسباب التي تؤدي إلى التفكك إذا انشغل الأب وأهمل دوره في الأسرة، وازدحمت الأعباء والضغوط على الأم فإنها ستقصر في حقوقها وواجباتها وتمل من كثرة المهام وتعدد الأعباء.
5 - كثرة الخدم وتوليهم دور الوالدين فتتخلى الأم عن التربية والرعاية وتسلم أبناءها إلى الخادمة، ويتخلى الأب عن دوره في متابعة الأبناء والسؤال عنهم ومعرفة رفقائهم.
6 - ضعف التربية من الوالدين إما من اللين الزائد أو القسوة والشدة المفرطة مما ينتج عنه هروب الأبناء من الأسرة، ولجوئهم إلى الانحراف وتعاطي المخدرات.
ولعلاج هذا الوباء قبل استفحاله وحتى لا يتفكك البناء ويهدم صرح الأسرة الشامخ اتباع هذه الوسائل:
1 - التعلق بالله والتمسك بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهديه.
2 - الاختيار الصحيح للزوجين على أساس الدين والخلق لما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تُنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير».
3 - تحمل المسئولية من الوالدين وإدراك عظمة الأمانة الملقاة عليهما وعدم التخلي عن أدوارهما للانشغال بالعمل أو التجارة وغيرها.
4 - الرقابة والمتابعة للأبناء مع إعطاء الثقة والاحترام المتبادل بين الوالدين والأبناء، وشغل أوقات الفراغ لديهم بما ينفعهم ويصلح أحوالهم بإلحاقهم بالمراكز الصيفية ودور تحفيظ القرآن واختيار الرفقة الصالحة التي تعينهم على طريق الخير.
إن الشباب والفراغ والجدة
مفسدة للمرء أي مفسدة
5 - توجيه النصح والإرشاد بجميع الطرق المباشرة وغير المباشرة على حسب الأحوال والتذكير بالله وربط قلب الزوجة والأبناء بالله وبكتابه قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
6 - الحوار في حل المشكلات بين الزوجين أو الأبناء وكظم الغيظ والتغاضي عن الهفوات بينهما وعدم إفشاء الإسرار، فإذا كثرت المشاكل وعظمت لا بد من الإصلاح بينهما باللجوء إلى المؤسسات الدينية والجمعيات المتخصصة في علاج المشكلات والإصلاح.
إن الأسرة قلعة حصينة إذا أُسست بأساس متين وعظيم وقامت على منهج ثابت من القرآن والسنّة فإذا حدث شرخٌ في هذا الصرح، فالعلاج في القرآن بالموعظة والهجر بين الزوجين ثم الضرب غير المبرح ثم الإصلاح بينهما بحكم عدل من أهله ومن أهلها مع الدعاء والالتجاء إلى الله والتوكل عليه حتى يظل هذا الصرح شامخاً وعامراً بذكره.
علاج التفكك الأسري
أما الدكتور إبراهيم بن صالح الحميضي الأستاذ المشارك بجامعة القصيم فقال: من محاسن الدين الإسلامي الحنيف أنه اعتنى عنايةً كبيرة بالأسرة؛ وجعل حفظ كيانها، وترابط أفرادها، وتآلف أعضائها من أوجب الواجبات، ورتب الأجور العظيمة لمن قام بهذه الواجبات المتمثلة ببر الوالدين، وأداء حقوق الأزواج، ورعاية الأولاد، وصلة الأرحام، وفي المقابل ورد الوعيد الشديد لمن ترك هذه الحقوق وأهملها، والنصوص في ذلك مشهورة معلومة.
والتفكك الأسري ظاهرة غريبة دَخيلة على المجتمعات الإسلامية المستضيئة بنور الوحي وهدي النبوة، ويُمكن علاجها من خلال اتخاذ أهمها ما يلي:
- تبصير الناس بأهمية وفضل التواصل والتعاون والألفة بين أفراد الأسرة، وتحريم القطيعة والتباغض بينهم، من خلال الخُطب والمحاضرات، ووسائل الإعلام المختلفة.
- المبادرة بأداء الحقوق إلى أهلها، ولا سيما الميراث الذي تولى الله تعالى قسمته بنفسه، وهكذا الديون، وسائر الحقوق المالية.
- طاعة الله تعالى والمداومة على ذكره واستغفاره علاج كبير لجميع المشكلات، ومنها التفكك الأسري؛ فإن الطاعة سبب لصفاء النفوس وسلامة النفوس، والذكر سبب لطرد وساوس الشيطان الذي يسعى دائباً للتحريش بين الناس.
- العدل بين الأولاد، فإن الإخلال به سبب كبير للقطيعة والتباغض بينهم وبين أولادهم وربما بين أقاربهم.
- القُرب من أفراد الأسرة ومشاركتهم أفراحهم وهمومهم، وتقديم حقهم على المتطلبات الوظيفية والتجارية، فضلاً عن مناسبات وجلسات الأصدقاء والزملاء.
- العفو عن الزلات، وحسن الظن، والتغاضي عن الأخطاء التي تصدر عن بعض أفراد الأسرة، والرِّفق بهم، والحِلم عليهم؛ فإن الإنسان لا يسلم من الخطأ الذي قد يصدر أحياناً عن حسن نية.
- التثبت في الأخبار، وعدم الاستماع لأقوال النمّامين والجهّال الذين يزينون القطيعة ملبسين لها ثوب النصيحة.
- المبادرة بحل المشكلات حينما تقع وعدم تركها حتى تتشعَّب وتتوسع.
- من الحلول المعاصرة الناجحة ترتيب الاجتماعات الدوريّة المنظمة لأفراد الأسرة، والحرص على تحقيق مبدأ الترابط، وعلاج التفكك والتقاطع من خلالها.
- ومن الحلول المعاصرة كذلك استخدام برامج التواصل الحديثة في كسر الحواجز بين أفراد الأسرة، وإذابة الجليد الذي قد يتراكم مع طول الانقطاع.
- وأخيراً هناك دور كبير للمؤسسات التربوية والاجتماعية والجمعيات الخيرية في علاج التفكك الأسري الناتج عن الجهل بالحلول المناسبة لمشكلات الأسرة، أو الفقر المؤدي للقطيعة والبغضاء، أو غير ذلك من الأسباب التي تستدعي مشاركة هذه الجهات في العلاج من خلال الاستشارة، أو الدعم المالي، أو الوساطة الحسنة في الصلح.
نسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين ويؤلف بين قلوبهم، ويديم المحبة بينهم.
الهُدُوْءُ الأُسَرِيُّ
ويشير الشيخ محمد بن عبد العزيز المطرودي الداعية في وزارة الشؤون الإسلامية وعضو اللجنة الاستشارية لمؤسسة الراجحي الخيرية وعضو اللجنة الوطنية لرعاية السجناء والمخدرات: نَسْمَعُ وَنقرأُ عَنْ مَواقِفَ مُتنوعةٍ؛ كَرجلٍ تَخَاصَمَ مَعَ زَوجهِ أمَامَ النَّاسِ، أوِ امرأةٍ تُرهقُ زوجها، أو زَوجٍ لا يبالي بمشاعرِ زوجتهِ، وحياةٌ زوجيةٌ على كَفِ عِفْريتٍ!! لا تهدأُ ولا تَستقرُ حتَّى تعودَ أسوأَ ممَّا كانتْ، مَواقِفُ يَجْمَعُ بينها فَقْدُ الهدوءِ وانفعالاتٌ صَاخبةٌ، أمورٌ كثيرةٌ رصدتها أُدَوِنُ لكُم شَيئاً ممَّا خَطَرَ لِيكونَ رَسُوْلَ تَرْبيةٍ، وَعُنْوَانَ هِدَايةٍ.
الاسْتقرارُ الأُسَري لا يُقاسُ بِطُولِ المُدة - وإنْ كَانَ مُؤشراً لا بأسَ به - لأنَّ أمراضاً تصحبُ البعضَ شَطرَ عُمرهم أو أغلبه.
مؤشراتُ الاستقرار تكونُ بالنَّجاحِ الشَّخصي والجَمعي لأفرادِ الأُسرةِ والوئامِ النَّفسي والاجتماعي.
التشرذمُ الأُسري بينهُ وبينَ المُجتمع عَلاقة سَلبية وإيجابية في آن؛ وتتأثرُ الأُسرةُ بالمُجتمع والعكس أيضاً.
يُشكِّلُ الإعلامُ المرئي والمسموعُ والمَجالس والأصْدقاء والمَدرسة والجَامعة والمَسجد والعلاقاتُ الإنسانية بأنواعها أنماطاً من التَّفكيرِ والسَّلوك ويبني قناعاتٍ تراكمية تؤثرُ على الأُسرة وأفرادها.
المخدراتُ والفقرُ والبطالةُ والاكتئابُ والمواقف المُحرجة تقود إلى مآلاتٍ فَرديةٍ وأُسرية واجتماعية مؤلمة.
العالمُ اليومُ يحمله الفتى والفتاة من خلالِ جهازٍ ذكي في يده! والسَّلوك يستجيبُ للعقل الجمعي بصورةٍ تلقائيةٍ؛ فإن كانتِ القيمُ الإيجابيةُ تحكمُ العقلَ فسيكونُ الفرز والتَّحليل أمراً سهلاً يُؤمَنُ أنْ يكونَ معهُ انجرافٌ يذيبُ الهَوية، هناكَ تصاعدٌ ملحوظٌ في التَّعاطي الثَّقافي السَّريع بشكلٍ مُذهل من خلالِ وسائلِ التَّواصلِ الاجتماعي ومن الطّبَعي أنْ تكون مؤثرةً فكرياً وسُلوكياً!.
عِندَمَا تَكُوْنُ حَياةُ الفَردِ منَّا أَوْ الأُسْرَةِ متناغمةً مع الفطرةِ والبيئةِ التي نعيشُ فيها؛ فممَّا لا شَكَّ فيهِ أننَّا سنحظى بقدرٍ كَبيرٍ مِنْ الهدُوءِ النَّفسيِّ وَالعَاطِفيِّ وَالاجتماعيِّ وَغيرِ ذلكَ مما نُريدُ ونحبُ، بَلْ أصبحَ الهدوءُ والانسجامُ لدى بعضنا أَبعدَ من الثُريا، فَليسَ الهدوءُ الأسري والزَّوجي إلا أماني؛ وأصبحتِ الأزمةُ أو التَّأزمُ يُسيطرُ على مَقاطِعَ ومفاصلَ كثيرةٍ من حياتنا فلا نتمتعُ بلحظاتِ هدوءٍ حتى تتعكرَ مشاعِرنا: مِنَ الماضي والحاضرِ والمستقبل!!، وندخل دوامةً من المشاعرِ المتناقضةِ التي تعصفُ ببراءةِ قلوبنا وتجعلها كيتيمٍ على قَارعةِ طَريقٍ!.
أذكرُ أني التقيتُ رجلاً حكيماً قال لي: يا بُني الحياةُ لا تَحتاجُ إلى هذا الصَّخبِ الكَبير! وتأملتُ كثيراً في كلمتهِ فرأيتُ أننا كُلما أبعدتنا عَنِ التَّعاملِ الفِطري مع حياتِنا كُلمَّا كَانتْ الحياةُ صَخباً لا يُطاقُ، ونكونُ كآلاتِ المصانعِ التي تعملُ على مَدارِ السَّاعة!!، فالقُرْبُ من الطَّبيعةِ يُخَفِفُ من حدةِ تصرفاتنا ويضبطُ الانفِعَالاتِ النَّفسية.
إنَّنَا نَرى أشخاصاً تعلو مظاهِرَهم البَهْجةُ من حُسنِ اللباس، والرَّائحةِ الزَّكية، وَلكنَّ وجوهَهُم تعلوها قَتَرةُ حُزْنٍ، ويلُفُها هُدوءٌ مُزَّيفٌ؛ فهذهِ مظهريةٌ جوفاءُ سُرعانَ ما تنفجرُ.
والريحُ التي تعصِفُ بالهدوءِ إنَّمَّا هي دوائرُ صَعبةٌ يمرُ بها الفَرْدُ والأُسْرةُ، فالحياةُ ومَا تحتاجهُ من التزاماتٍ، والأبناءُ وهمومهم، والرَّغبةُ في المالِ والتَّرفِ، والمكانةُ الاجتماعيةُ التي تُسَيْطرُ على تَفْكِيرِ البَعْض، والمقارنةُ الخاطئةُ؛ كُلُها أسبابٌ تجعلُ الحياةَ كابوساً لا يُطاقُ، فيغضبُ المرءُ من غير سَببْ، وتكونُ النَّفسُ دائماً على خطِ النَّار؛ مستعدةً لأيِّ ثورةٍ، وفي حشاها بركانٌ تثورُ منه أرتالٌ من السُّحُبِ السَّوداءِ التي تُحيلُ النَّهارَ ليلاً، والهدوءَ ذُعراً، والملجأُ بعيدٌ، والحيلةُ معلقةٌ في السَّماء، فعندها تموجُ الأفكارُ والمشَاعرُ؛ ويكونُ الشَّيطان قدْ رقصَ طرباً؛ فقدْ وقعَ الفَردُ أوِ الأسرةُ في شِباكهِ الملتويةِ!!.
إنَّ المشاكلَ كما بينَّا سابقاً جزءٌ من فِطْرَتنا، لكنْ أنْ تنقلبَ الفِطْرةُ لِتكُونَ هِيَ المشْكِلةُ!! ويكونَ الاستثناءُ هو الأصلُ: هنا المشكلةُ الكَبيرةُ، وهي فكريةٌ وعلميةٌ بدرجةٍ كبيرةٍ، كُلمَّا زادَ عِلْمُ المرءِ وتجربتهُ كُلمَّا تَخلَّصَ من هذهِ الشَّوائبِ والعوالقِ السَّيئةِ.
والهدوءُ يرادفُ السَّكينة، والسَّكينةُ لفظٌ قرآنيٌ بلاغيٌ يحملُ في تضاعيفهِ معانٍ شفافةٍ ورقيقةٍ جُمِعَ شتاتها في كلمةِ السَّكينةِ التي تعني السُّكونَ والرَّاحة بل والتَّرف النفسي!!.
لقدْ قالَ ابنُ أبي سلولٍ كلمةَ الإفك في عِرضِ أطهرِ من مشى بقدمٍ، في حينِ كان هذا المنافقُ يكرهُ فتياتهِ على البغاء!!، فكانَ فعلهُ وكلماتهُ متوافقةً مع ما يضمرهُ قلبهُ؛ فالخبيثُ منَ الكلماتِ للخبيثِ مِنَ الرجالِ والنِساء، والطَّيبُ مِنَ القَولِ للطَّيبِ من الرِجال والنِساء.
إنَّ أعظمَ أزمةٍ تمرُ بها الأسرةُ هي أزمةُ العِرضِ، فكيفَ يتلَّقى المرءُ مثلهُ!! وكيفَ يُتعَامَلُ مَعَهُ!! وما الهدُوءُ الذي نُطَالِبُ بهِ!!، إنَّ النَّبيَّ عليهِ السَّلامُ لما أرادَ اللهُ كرامتهُ بهذا الابتلاءِ جعلهُ يتعاملُ معَ هذهِ القضيَّة ببشريتهِ فلم ينزلْ عليه وحيُ السَّماءِ ثمانٍ وعشرين ليلة، وكانَ واثقاً من زوجهِ الطَّاهِرة، فَلم يكن يختارُ إلا طيباً، ومن أينَ تأتي الرِيبة؟! فِلمْ تَسْمَعْ مِنْهُ زوجهُ خِلالَ هذه المدةِ كلمةً تسوءُ أو تجرحُ أو تعدُ نوعاً من التَّوجس أو التَّحقيقِ والمراقبة؛ أبداً، إنَّما تعاملَ مع الأمرِ ببشريةٍ قائمةٍ على المؤشراتِ الحسنةِ، والتَّعاملِ الطَّيبِ، فهذا بيتهُ وهو أعلمُ النَّاسِ وأخبَرُهم بهِ، ثمَّ لما بلغَ الأمرُ ذروتهُ وماجَ حديثُ الإِفكِ، ونجم النِفاقُ خلالَ ثمانٍ وعشرينَ ليلة، عَلِمتْ عائشةُ رضي الله عنها بما قِيلَ في آخِرِ الأيامِ؛ وهَذا يُعتبرُ تطوراً يستوجبُ تَصرُفاً سَريَعاً وحكِيماً، فما أنْ خَرجتْ مِنْ بيتِ زَوجها تتحسسُ الخبرَ حتى تسارعتِ الأحداثُ؛ ففي أقلَّ مِنْ ساعةٍ يستدعي الزَّوجُ النَّبيُّ علياً وأسامةَ للمشَاورةِ؛ لأنَّهم أقربُ النَّاسِ إليهِ، وأعَرفُ بزوجهِ وعلاقته بها؛ يستشيرُ وهو نبيٌّ؟ نعم ويستشيرُ شباباً في ريعان شبابهم!! فلم يتعال ويظن أنَّهُ لا حاجةَ له بالمشورةِ كَما يفعلُ الكثيرُ منَّا!!، ثم يخرجُ إلى المسجدِ ويَعْذِرُ فيمنْ قالَ في عِرضِهِ مَا قالَ، ويخرجُ من المسجدِ إلى بيتِ أبي بكرٍ حيثُ ذهبتْ زوجهُ؛ ويدورُ في جنباتِ ذاكَ البيتِ حديثٌ يقطرُ من الحكمةِ والهدوءِ والعقلِ فلا سِبابَ ولا رفعَ صوتٍ ولا إلقاءَ تُهَمٍ، حديثٌ لا تسمعُ فيه لاغية؛ وإنَّما ملاطفةٌ وكلامٌ هادئٌ حتى نزلَ الوحي من السَّماءِ في موقفٍ تقشعرُ لهُ الأبدانُ، وتُذْرَفُ مِنْ مشاعرهِ الدموعُ، فعلى عظمِ الموقفِ والتُّهمة، وجلالةِ المتهمِ وكِمالهِ، فقدْ كَانَ الهدوءُ الأُسريُ هو السَّائدُ في ذلكَ الموقفِ العَظِيم، كَمَا أنَّ الغَيْرةَ لا تُناقِضُ الهدوءَ الذي نَدعُو إليهِ.
إنَّ الهدوءَ مجموعةٌ من القِيمِ والمهَاراتِ المتراكمةِ وليسَ مجردَ كلامٍ نحسنُ سَبْكَهُ والحديثَ عَنْهُ، إنَّهُ فِي الأصلِ حُسْنُ تعبدٍ للهِ تَعالى ومحافظةُ على أوامرهِ، وبُعْدٌ عن مَواقِعِ الرِّيبِ وأَهْلِهَا، ومخالطةٌ لمن حَسُنَ دينهُ ورقَّ طَّبْعُهُ؛ وإحاطةُ ذلكَ كُلِّهِ بصدقِ اللجؤ إلى الله، وتطبيقُ تلكَ المهاراتِ من المشُّورةِ، والتَّريثِ، والمراعاةِ النَّفسيةُ. وممَّا يعينُ على معالجة هذا الأمر أنَّه كُلما زادت القناعاتُ العلميةُ المتوازنة كانت النتائجُ أجود والمشاكلُ أقل، وهذا يحتاجُ إلى منظومةٍ متكاملةٍ بدءاً من الصِياغة الفِكرية للإنسان في دينهِ وهويته وثقافته والتي تُعززها أو تقوضها مواردُ التأثيرِ المتنوعة.
كما أنَّ النَّظرُ إلى الأمورِ بإيجابيةٍ وحُسْنِ ظنٍ، فذلكَ أحرى بالاستفادةِ من المواقفِ ومحاولةُ تطويعها حتى يكونَ فيها قبسٌ من ضوءٍ، ونسلَمَ من غوائلها، من بَابِ قولِ الله تعالى: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}. وبعدها: لن تُزعزعَ حياتنا أيُّ قضيةٍ، وتعودَ الحياةُ أجملَ مما كَانتْ، بل أحلى من الشَّهد في أفواهنا إننا نفقدُ هدوءنا وأعصابنا تضطربُ فيما هو أقلُ من ذلك!! بل ربما كان من توافهِ الأمورِ التي لا يليقُ بالمرءِ أنْ يقفَ عندها بل يُمَرَها مع شيءٍ من التَّغافُل. ولو تأملنا في واقعِ حياةِ الأنبياءِ في أُسَرِهِم لوجدنا أنَّ تلك القيم مشتركةٌ بينهم فبيتُ نوحٍ ولوطٍ كان هادئاً مع أنَّ زوجتيهما خَانتاهما بأنْ كانتا عَلى غَيرِ دينهما، وتنقلانِ أخبارهَما إلى قومهما.
وفي خبرِ مَريمَ مَا يُسلي ويَذْهَبُ بهمومِ مَنْ أُصِيبَ بمُصيبةٍ تَجعلُ النَّاس يقفونَ منهُ موقِفَ الرَّيبةِ، ويصور القُرآنُ ذلكَ الألمَ الذي جَثم عَلى قَلْبِها{يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا}.. فتأملوا ذلك!.
أنْ نوصفَ بالهدوءِ أمرٌ سَهْلٌ، وأنْ نتحدثَ عن الهدوءِ أَسْهَلُ بكثيرٍ، لكن أنْ ننجحَ في تطبيقِ هذا المعنى أمرٌ يحتاجُ إلى عزيمةٍ وقوةٍ وملكةٍ فذةٍ، وفاقدُ الشَّيءِ لا يعطيهِ.
مظاهرُ الهدوءِ وعلاماتهُ كثيرةٌ، ويمكنُ قياسهُ والتنبؤ به؛ من خِلالِ سَمَاعِ الزَّوجينِ لحديثِ بعضهما، ومحاولةِ الإصغاءِ عندما يتحدثُ الآخَر، إنْ قَطْعَ الحديثِ ومحاولة عدمِ الاستماع دليلٌ على التَّوترِ!!، كما أنَّ الفَرَحَ باللقَاء، وقضاءَ الحوائجِ بنفسٍ طيبةٍ، وسخاءِ اليد، والتَّرفيهُ عن الأسرةِ ولو كانتْ فَردينِ، والاسترخاءُ البَدنيُ والفِكْرِي، والمناقشاتُ والحواراتُ الفكريةُ والثَّقافيةُ بين الزَّوجينِ حولَ أيِّ قضيةٍ، ومظاهرُ الحبِ والحنانِ بينهما حالَ الصحةِ والمرضِ، ورباطةُ الجأشِ والأناةُ عن حُدوثِ شيءٍ؛ كلُ ذلكَ مِنْ مظاهرِ الهدوءِ الأُسري.
إنَّ الأحزانَ التي تمرُ بنا إنَّما هي جزءٌ من حياتنا البشريةِ؛ لكن ينبغي ألا تفقدنا الأحزانُ هدوءنا، ونفقدَ الأمل، ونقفَ عند تلك النُقطة!!، ونجعلَ حياتنا كورقةٍ تذروها الرِياح، وإنَّ المرءَ الذي أحاطَ نفسهُ بأسوارِ اليأسِ والقُنوطِ لا يمكنهُ أنْ يحظى بلحظاتِ هدوءٍ داخلَ بيتهِ الصَّغيرِ ومع زوجهِ وصِغَارِهِ.
سَوْفَ يَصْفُو لكَ الزَّمانْ
وَتَأتيكَ ظُعونُ الأحبةِ الغِيابْ
وَليالي الأحْزانِ تَرْحَلْ
فَالأَحْزَانُ مِثْلُ المسَّافِرِ الجَّوابْ
إنَّ الهدوءَ لياقةٌ إيجابيةٌ ينبغي أنْ نَكْتَسِبَ مِنها ما يجَّملُ هدوءنا، كَي نَعيشَ وَنحنُ نَشْعرُ بالرِضا والغبطةِ، وَنتلقى قَدَرَ اللهِ ونحنُ رَاضونَ، وَنلقاهُ وَنحنُ نُحسنُ الظَّن بِهِ.