يمُرُ يومُ الوقفةِ كَكُلِ عامٍ ثقيلاً مُرهِقاً ومليئاً بالفوضى، فبينما يكونُ الناسُ وقوفاً بعرفةِ يطرقونَ بابَ الرحمةِ أغُطُ أنا في عملٍ شاقِ لا ينتهي..... الساعةُ الآنْ الواحدةُ ظُهراً و أنا لا زِلتُ أتجولُ في سوقِ “سعدْ قِشرة” أُحاولُ عبثاً إيجادَ ما يُرضى ابني أحمد فهو صعبُ المِراسِ و لا يقتنعُ باختياراتي أبداً.
نظرتُ إليه بحنانٍ وهو يُجادِلُ البائعَ في مقاسِ القميصِ و البائعُ يتعاملُ معهُ بِسِعةِ بالٍ مُنقطعةِ النظير.
تركتهم يتحاورون بينما سرحتُ بأفكاري بعيدا وأخذتُ أتأملُ تقاطيعَ وجهِ أحمدْ وإلى أيُ حدٍ يُشبهُ والدهُ! فأخذني الحنينُ بعيداً إلى تِلكَ البُقعةِ التي تستحوذُ على زوجي بعيداً عنّا حتى أنني لمْ أعُدْ أستطِعمُ للأيامِ شيئاً فكُلها تُشبهُ بعضها، حتى فرحةُ العيدِ منقوصةِ ومُبللةِ بالمشقة، تباً لتِلكَ المسافاتِ التي تسرِقُ فرحتنا.. وتباً لِمنْ اخترَع السفرَ.. وتباً لِمنْ اخترعَ الطائرات.
انتبهتُ أنّ أحمدَ اقتنعَ أخيراً بِما اختارهُ مِن ملابسَ (العيدِ) وأصبحَ بإمكانِنا أنْ نُغادرَ الآن إلى المنزِلِ فأمامي (كوم) مِن العملِ المنزلي استعداداً ليومِ الغدِ.
وصلتُ إلى المنزلِ و عقاربُ الساعةِ تُشيرُ إلى الثانيةَ والربعِ ظُهراً (الزمن دا جاري كد ليه؟؟) و كأنهُ يُعاندني ليسبِقني إلى يومِ العيدِ...... بدلتُ ملابِسي سريعاً وبدأتُ مشروعَ الترتيبِ المنزلي و فجأةً تذكرتْ!! لا يوجدُ ما نأكُلُهُ اليومْ فبِما أنني صائمةُ لمْ أتذكّرْ أنْ علىّ إعدادَ وجبةِ الغداءِ لأبنائي.. (كمْ أنا أمُ سيئةُ)...... تركْتُ العملَ و توجهتُ إلى المطبخِ في مُحاولةٍ لإعدادِ وجبةٍ سريعةٍ ولكن حدثَ ما لمْ يكُنْ في الحُسبان، فقدْ فرغتْ أُسطوانة الغازِ (دا وقتك إنتي كمان!!).
لا مفرَ مِن مُحاولةِ الذهابِ إلى رأسِ الشارعِ، ليتني احتفظتُ بِواحدةٍ بديلةٍ قِبالةَ العيدِ حتى لا أدخُلَ في هذا المطبُ الشائكُ خاصةً أنْ محلَ الغازِ يبعدُ عِدةِ أميالٍ عنْ منزلي ولا بُدّ أنْ أستغلَ ركشة، و حتى جودُ الركشاتِ في هذا الوقتِ مِن العامِ شِبهُ مَستحيل! ماذا افعلْ؟ هلْ أستعينُ (بابنِ الجيران؟؟)!
أخيراً تمتْ عمليةُ تبديلِ الأسطوانة على خيرٍ بعدْ أنْ طلبتُ مِنْ جارتي سعدية التي تُلاصِقُني (بالحيطة) أن تُرسِلَ لي ابنها ليحملَ الأسطوانة و يُعيدَ ملأها ..
مرّتْ عاصفةُ تبديلِ الأسطوانةِ على خيرٍ وبقى أنْ أذهبَ إلى الحنانةِ في مَظهرٍ لمْ أعتادهُ إلا في الأعيادِ والمُناسباتِ الخاصةِ فبغيابِ زوجي أصبحتُ زوجةً معَ وقفِ التنفيذِ، لكِنهُ طقسُ لا بُدَ مِنهُ حتى أسلّمَ مِنْ ألسِنةِ النِسوةِ المُسلطةِ عليَّ و خاصة والدة زوجي التي تمقُتُ (الأرجلَ المُفسخةِ) على حدِ تعبيرها.
وصلتُ إلى الكوافيرِ..وحتى يحينُ دوري أخذتُ غفوةً صغيرةً سبحتُ معها في حلمٍ جميلٍ لمْ أستيقظُ مِنهُ إلا على يدِ هويدا طالبةً مني مدّ قدمي اليُمنى لتبدأَ إعلانَ مراسِمِ (الفرحِ المزعومِ)، ولكن! هلْ تستطيعُ أناملُ هويدا إدخالَ الفرحَ الى قلبٍ كسيرٍ؟؟ وفجأةً أخذت أُغنية سامي يوسِف (نغمةُ جوالي) تُتطرقِعُ بِجنونٍ، إنهُ هاتفُ المنزلِ .... اللهم اجعله خيرا!!
إنهُ أحمد يصرُخُ طالباً عودتي فوراً فأختهُ الصغيرةُ تُغالِبُ النِعاسَ و تبكي دونَ توقفٍ، فسألتهُ بِكلٍ وجلٍ (خالو ما جا لسه؟؟)، الساعةُ الآنْ التاسِعةُ مساءً ولم يعدْ أخي بعدْ رُغمَ وعدهِ الجازمِ لي بعودتهِ باكِراً حتى يقومُ بِشراءِ خروفِ العيدِ.. أين هو يا ترى؟؟
اتصلتُ بٍهاتِفِهِ المحمولْ لأجِدهُ ناسياً تماماً وعدهُ لي (عزابى وما شايل هم)، و بعدَ اعتذاراتٍ (وتحنيسات) طلبَ مني أن أؤجلَ الأُضحيةُ لليومٍ الثاني أو الثالثِ حتى يتمكَنَ مِنْ شِراءِ الخروفَ في صباحٍ الغدِ، ولكنني رفضتُ بعُنفٍ حتى لا أُغيرَ عادةً زوجي الذي يُضحي أولَ أيامٍ العيدِ، فأنا أُحاولُ جاهدةً أنْ أحتفِظَ بِخَطهِ الذي رسمَهُ لحياتِنا وأُنفذهُ في غيابِهِ ولنْ أؤجلَ بلْ سأذهبَ لأشتري الخروف (برااااااى).
اقتلعتُ قدمي مِن يدِ الحنانةِ (وخمشت) الحِنةُ بِعُنفْ مُعتذرةً لها أنني لنْ أتمكنَ مِنْ مُواصلَةِ (الفرح).. وتركتُ المَجالَ لسعيداتِ الحظِ اللواتي يحظينَ بِوجودِ أزواجِهنَ بِجوارِهنْ (الزيى دى شِن بتدور بالحنه.. الحنة طايره وعيشتى زااااااتها طايرة ).
وصلتُ إلى المنزِلِ سريعاً وكلَ همي أنْ أتمكنَ مِنْ إحضارِ الخروفِ حتى لا أُضيعَ فُرصةَ الضحيةِ في أولِ أيامِ عيدِ الأضحى المُباركِ لإحياءِ عادةِ زوجي كُلَّ عامِ.
حاولتُ أنْ أستعينْ بـ(راجل الجيران) فأخذتُ أُنادى جارتي سعدية (يا سعدية هوى.. ابوكم جاب الخروف واللا لسه؟؟) فأتتني مُهلِلةً ومُبشِرةً بقدومِ الخروفِ السعيدِ مُنذُ ليلةِ البارحةِ، فابتلعتُ خيبتي وابتسمتُ لها رُغماً عني و هكذا انطفأَ الأملُ اليتيمُ في إيجادِ العونِ، وعليه سأُضطرُ أنْ أذهبَ بِصُحبةِ أحمدْ إلى أقربِ سوقِ لبيعِ الأضاحي بشارعِ الإنقاذْ (ياهو راجل البيت بعد أبوه)، فصاحبني وعلاماتُ الزهوِ ترتسِمُ على ملامحهُ الطفوليةِ البريئةِ و ما أنْ وصلنا حتى هروّلَ إلى أقربَ تجمُعٍ للخرفانِ مُحاولاً الركوبَ في أحدها مُصِراً أنْ نقوم بشرائِهِ، ومعَ إصرارِ أحمدَ وصرخاتِهِ المُحتجةِ وجدَ البائِعَ منفذاً للمُفاصلةِ ورفعِ السعرِ، ولأنني كُنتُ أشعرُ بالحياءِ مِن تجمُعِ الرِجالِ فلمْ أكثِر في المُحاججةِ، بلْ دفعتُ لهُ ما طلبَ وعُدنا ثلاثتنا (أنا والخروف و أحمد) إلى المنزل!