دخول المطبعة إلى العالم الإسلامي واجه ردة الفعل ذاتها التي واجهها أي جديد يأتي من الغرب إلى العالم الإسلامي. الممانعون لدخول المطبعة هم - كما هي العادة- المتشددون أو بلغة أدق المتكلسون؛ والحجة هي أيضاً ذاتها كي لا تكون هذه الآلة (الشيطانية) سبباً لهز العقيدة والتفرنج وتغريب قيم الإسلام، إضافة طبعاً إلى تحريف القرآن، وكذلك كتب الدين الأخرى، واللعب فيها من قبل (الفرنجة) والمتفرنجين (أي الليبراليين بلغة اليوم)، الذين هُم أعداء الملة؛ و(سداً للذرائع) حرّموا الطباعة تحريماً قطعياً، وأصروا على البقاء كما كان السلف ينسخون الكتب ويتداولونها فيما بينهم، واعتبروا أن من يخرج على هذه الثوابت - والعياذ بالله - لا شك أنه من أعداء الدين.
مُنعت المطبعة أن تعمل في الأراضي العثمانية منعاً قاطعاً، وصدرت فيها فتاوى غاية في التشدد، واعتبرت إحداها أن طباعة المصاحف بهذه الآلة الشيطانية كفراً وخروجاً من الملة. لكن هذا المنع كان مقصوراً على المسلمين أما الطوائف من أصحاب الملل الأخرى فلأن دينهم لا يعني السلطان، والتحريم جاء من وجهة نظر إسلامية، فقد تغاضوا عن استعمالهم للمطبعة. غير أن المتنورين العثمانيين أدركوا أن الجمود والتخلف الذي كان يشل قدرة السلطنة على مواكبة نهضة الدول الأوربية أعداء السلطنة اللدودين، هو (التخلف) بشكل عام والتخلف العلمي والصناعي بشكل خاص، ولا يمكن الهروب من التخلف إلا بإصلاح التعليم، وشحذ همم المتعلمين للاطلاع على منجزات ومخترعات الأمم الأخرى ومُجاراتها، وهذا الاطلاع تعتبر فيه المطبعة حجر الأساس؛ وطالما أن المطبعة مُحرّمة فمعنى ذلك أن التعليم والثقافة والاطلاع ستبقى متخلفة، وسيظل التعليم (كتاتيبياً) ظلامياً متخلفاً كما كان في القرون الماضية، أما الآخر الأوربي فسيمضي يتقدم، ويبتعد، وتظل السلطنة وإنسانها في مكانيهما.
بدأت المعركة بين المتكلسين أعداء المطبعة من جهة والتنويريين من الجهة الأخرى بين شد وجذب. كان التنويريون يعتبرون إقرار (المطبعة) حينها غاية طموحهم؛ وكالعادة انتصر التنويريون في النهاية، إلا أن انتصارهم لم يأت بسهولة وإنما من خلال شغب و(دماء). فقد أفتى شيخ الإسلام (مفتي السلطنة) عبدالله أفنــدي حينها أثنــاء مشيخته في أواســــط العـشــرينات من القرن الثامن عشر الميلادي بجواز المطبعة، تجاوباً مع ضغوط السلطان أحمد الثالث حينذاك وكذلك الصدر الأعظم إبراهيم باشا (رئيس الوزراء)، واشترطت الفتوى ألا تُطبع فيها المصاحف وكذلك الكتب المتعلقة بالشريعة إطلاقاً؛ فقد أبقت للناسخ التقليدي (الخطاط) نَسخ المصاحف إضافة إلى كتب الدين؛ وفعلاً تم افتتاح أول مطبعة تُطبع بالحروف العربية، إلا أن ذلك لم يمنع من قيام ثورة شعبية شارك فيها المتشددون الذين كانوا يناوئون بشدة الإصلاح على الطريقة الأوروبية - (أو كما يُسمون بلغتنا اليوم التغريبيون)- وكذلك الخطاطون وأسرهم المتضررين اقتصادياً من المطبعة، إضافة إلى العاطلين عن العمل. تم عزل السلطان أحمد الثالث، وقُتل الصدر الأعظم إبراهيم باشا، وعزل شيخ الإسلام (المفتي) عبدالله أفندي، ودُمرت المطبعة. ومع ذلك لم تمنع ثورة الرعاع والمتشددين (الدموية) أن تُوقف عجلة التطور والتحديث؛ توقفت المطبعة قرابة العقد من الزمن، لكنها عادت لتعمل ولكن ببطء في البداية، فما بين عام 1728 وحتى العام 1828، أي خلال قرابة القرن على صدور فتوى الأفندي، لم يزد مجموع ما تمت طباعته عن 100 كتاب داخل السلطنة، أي بمعدل كتاب واحد في السنة تقريباً، ومع الزمن والتعود طُبع فيها المصحف الشريف وكل كتب الدين بلا استثناء، وأصبحت فتوى الشيخ الأفندي التي منعت طباعة المصحف وكتب الدين في المطبعة من فتاوى (التشدد) والتزمت، في حين أنها كانت عند صدورها مجاراة للعصر ومواكبة للتحديث والتطور.
وختاماً أقول: من لا يقرأ التاريخ، ويُصر على الثبات والتكلس وعدم مواكبة التطور والتغير فستطؤه عجلة التطور مثلما وطأت غيره؛ وتاريخ المطبعة والصراعات التي اكتنفتها أمامكم فاقرؤوه، ومن يرُاهن على التخلف فسيلقى حتماً ذات المصير: مزبلة التاريخ.
إلى اللقاء.