حينما تقبع في مكان ما منزوٍ عن الخلق، ثم تستعرض بتأن وسعة وتمام متجرد ما بذلته وتطرحه المجامع العلمية واللغوية، وكذا تنظر آثار ونتائج كثير من الهيئات العلمية، سوف تحمد لها كلها جهدها وحضورها، وسوف تستقر نفسياً، وترتاح ذهنياً أن الأمة بخير.
ولست أظن أن أحداً أُعطي هبة العقل أو هبة الفكر أو هبة طول النظر إلا ويحمد لهذه (المجامع والهيئات) صنيعها، ولاسيما وهي بين حين وحين تثري الأمة بالآراء والفتاوى والتحقيقات والتوجيه والبيان العلمي أو البيان اللغوي، وتفسير ما يحتاج الأمر إلى تفسير مما يحتاج إليه كل مقام بحسبه، وهذا صنيع محمود شاركت فيه وعايشته وبذلت الجهد فيه كل الجهد حسب الجهد والطاقة.
خذ فسحة لنفسك لمدة عشرة أيام ليس إلا، تطالع الآثار البعيدة والآثار القريبة لهيئة علمية.. أو مركز علمي.. أو مجمع علمي.. أو مجمع لغوي، تجده خلال سنواته الأولى يدأب جاهداً الجهد كله على البذل والاجتماعات والإعلانات والكتابة هنا وهناك؛ فتشتغل في نفسك وتلوح في عقلك وتنبت في فكرك أن زمن كبار العلماء في زمن واحد في بلد واحد قد عاد لا يلوي على شيء.
وتتراءى لك صورة الأئمة الأجلاء: عبدالرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأبي زرعة الرازي وأبي حاتم الرازي وشعيب بن أبي حمزة ومحمد بن بشار ومحمد بن سلام وابن وارة ومالك بن أنس والليث بن سعد ويحيى بن معين وعلي بن المديني.
فهؤلاء في زمن واحد في بلد واحد، وإن سافر بعضهم حيناً من الدهر عاد.
وتتراءى صورة سيبويه والكسائي والمبرد والفراء وابن جني.
وتتراءى لك صورة السخاوي وابن خلدون والسيوطي والمزي وابن كثير والعيني والذهبي وابن حجر.. إلخ فترى من خلال التدبر وترى من خلال السبر وترى من خلال طول النظر أن التاريخ قد عاد شاهداً على نفسه بنفسه، وأنه قد تكرر.
وجميلة هذه الهيئات والمجامع والمراكز، جميلة كريمة فاعلة باذلة، لكن - ولا بد من لكن فإن الرائد لا يكذب أهله - حينما تدرس وتتعمق وتقارن بين من مضى ذكرهم من كبار العلماء وبذل ونتائج المجامع والهيئات المعاصرة تجد - إن شاء الله تعالى - نية صالحة، وتجد عملاً جيداً، كما تجد حرصاً بيناً على الطرح الجيد المتين وتلمس حاجة الناس إلى ما يحتاجون إليه.
فإذا تدبرت أكثر وأكثر، وترويت أكثر هالك البون الشاسع بين هذا وذاك، وهذا البون جزماً بدأ يحس به كثير من العلماء وكبار الباحثين المستقلين، وكذا بدأ يشعر به كثير من المحققين لأنفسهم عن كل ما يسعون إليه، لعلهم إن وجدوه يكون لهم ذاك الصيد الثمين.
وبيان هذا الشاسع وبيان هذا الفارق المهيب يعطي جزماً ضرورة البدء من جديد في الدراسات والبحوث والآراء والفتاوى، أتدرون الفرق..؟
أتدرون ما الفارق؟
إنه الإضافات العلمية الاجتهادية الجريئة المتكئة على جديد من الرأي العلمي الحر المتين الذي لم يكن من قبل.
هذا إذاً هو الفرق، وهو إذاً الفارق بين شيء وشيء، وحال وحال، ونظر ونظر.
فنجد مثلاً خمسين رأياً من خلال خمسة أعوام لمجمع أو مركز أو هيئة أو مجلس علمي أو فقهي أو لغوي. وخذ ما كتبه الشاطبي أو ابن فرحون أو النواوي أو العيني أو الكسائي أو ابن جني أو الفراء أو ابن رجب أو ابن حجر أو السرخسي، هناك تجد الفرق، ذلك إذا تلمست ونشدت الفرق لا لمجرد الفائدة والنفع والانتفاع.
لهذا قلّ اليوم الفهم السديد لآليات الاجتهاد العلمي الجريء بدليله أو بتعليله، وهذا ما جر ويجر اليوم إلى القراءة الخفيفة أو توكيل من يكتب لك أو يحقق لك أو يؤلف لك، وليس لك من وراء ذلك إلا الاسم على ما كتبه لك غيرك. والأمة أكثر ما تحتاج إليه هو الإضافات غير المسبوقة في الطرح لا التكرار أو النقل أو الاستشهاد، هكذا دون حرارة عقلية علمية فاعلة مجتهدة بروية وسبر وتورع وتجديد مطروح غير مسبوق بحال. إذاً، هذا هو الفرق وهو الفارق دون جدل.
ولا يشك أحد له مسكة من عقل رشيد أن الخير في هذه الأمة المسلمة موجود، وكل يحرص عليه الحرص كله، لكن ليس كل مجتهد مصيباً، لكنه إذا حاول وحاول وحاول فلا ريب يصيب، لكن بتجديد لازم، يلزم منه تحرر النظر من مجرد النقل دون إضافة لمن كان لها أهلاً وهو ذو رأي سديد.
إنها مني وثيقة أدونها عبر مجلة مقروءة رائدة، لعلها تبعث الروح فتبدأ هذه المجامع والمراكز والهيئات من جديد.
الرياض